رياض الصيداوي
كنت منذ زمن طويل مفتوناً بمفهوم (الثورة) ماضيا وحاضرا. فحاولت دراسة ما أمكنني من كتب عربية فوجدت أن البحث في هذه الظاهرة هزيل جدا، وينتمي إلي النوع التبشيري وليس إلي المقاربة أو البحث العلميين. فالقوميون العرب والماركسيون أكثر الناس غزارة في الكتابة عن هذه الظاهرة، ولكن بحوثهم اعتمدت علي ما يجب أن يكون، لا علي تحليل آليات الثورة نفسها، أسبابها، تطورها ونتائجها. ولعلي أذكر بكتب المفكر القومي الراحل عصمت سيف الدولة التي سماها (نظرية الثورة العربية)، أو كتب الدكتور نديم البيطار وأشهرها كتابه (المثقفون والثورة)، أو (من التجزئة..إلي الوحدة).. أما الماركسيون العرب فقد فرضوا علينا مفاهيم لم توجد بعد في الوطن العربي علي أرض الواقع. فخلقوا مفاهيم (البروليتاريا) و(دكتاتورية البروليتاريا).. وحاولوا التنظير للثورة في الوطن العربي بتقليد التجربة السوفييتية تارة أو بتقليد التجربة الصينية تارة أخري.. بل وجد بعضهم في التجربة الهزيلة والمضحكة للزعيم الألباني الراحل أنور خوجا مرجعية فكرية نظرية لهم. باختصار لم أجد ما يشفي غليلي ولم أجد ما يلبي فضولي المعرفي في اللغة والمكتبة العربيتين. فانتقلت إلي اللغة الفرنسية باحثا في علومها في التاريخ وفي علم الاجتماع وفي علم السياسة. باعتبار أن الفرنسية هي لغتي الثانية في تونس أو حتي لغة أولي أو موازية للغة العربية. فكل دراستي في الجامعة التونسية تمت من خلال هذه اللغة سواء كان ذلك في معهد الصحافة أو لاحقا في كلية الحقوق والعلوم السياسية. وكانت لدينا نخبة فرانكفونية في تونس لا تدرس العلوم السياسية إلا باللغة الفرنسية، وكانت تؤمن أن الفكر والعلم مصدرهما فرنسا والجامعات الفرنسية أما غير ذلك فهو حشو وشطحات فكرية غير (علمية).
علوم فرنسا الهزيلة
المهم انني بحثت في العلوم الاجتماعية الفرنسية عن مفهوم الثورة، تاريخه ونظرياته وأسباب وقوع الظاهرة أو فشلها. فقرأت كتب أندري دوكوفل Andrژ Decoufle وبخاصة كتابه (سوسيولوجيا الثورات) كما قرأت أعمال جان باشلار Jean Baechler وبخاصة كتابه (الظواهر الثورية) (Les phژnomڈnes rژvolutionnaires) وأعمالاً أخري مختلفة للفرنسيين...فوجدت أن أعمالهم تبقي ضحلة وهزيلة وإن كانت أفضل من الانتاج الفكري العربي..
التفوق الساحق للعلوم الأمريكية
ولما انتقلت إلي جنيف سنة 1994، وجدت حلقة بحث جامعية باللغة الانكليزية مخصصة لطلبة الدكتوراه والماجيستير عنوانها (الثورات)، يقدمها البروفيسور الأمريكي العالمي أندريه لايبش Andre Leibich فانضممت إليها، وسارعت وسجلت في هذه الحلقة. وكنا ستة باحثين لا أكثر. أنا، وكندي، ويونانية، وإيطالي، وسويسري وجزائرية. واكتشفت عالما مثيرا من النظريات والكتب والمراجع والبحوث لعمالقة العلوم السياسية المختصين في علم الثورة. اكتشفت أن العرب متخلفون قرونا عن العلوم السياسية الأمريكية. واكتشفت، وهذا الأهم، أن جامعاتنا في المغرب العربي تدرس الجهل والتخلف الفرنسي بدل أن تدرس العلوم الانكلوسكسونية. كم تعجبت لتخلف الفرنسيين في هذا المجال. وكم أشفقت علي أساتذتنا الذين لا يولون منارتهم إلا لفرنسا ظانين أنها مصدر العلم الذي لا ينضب. كم رثيت لحالهم حينما درست تشارلز تيلي Charles Tilly وكتبه العظيمة (من التعبئة إلي الثورة) (From mobilization to revolution)، (الثورات الأوروبية) (European revolutions)، ..وغيرها من الكتب العملاقة. وقد زارنا تيلي في جامعة جنيف، كما استخدمت نظريته في الثورة كمرجع لي في كتابي (FIS, GIA, Armژe: Vainqueurs et vaincus. Perspectives) (الفيس، الجيا، الجيش: منتصرون ومنهزمون. آفاق الصاع) الذي سيصدر في الشهر القادم عن دار (بيبلي سيد) (Publisud) الباريسية. وقرأت ودرست كتبا أخري عظيمة أعدد بعض كتابها علي سبيل المثال ولا الحصر: تيدا سكوشبول وكتابها (social revolutions)، وكتب تاد غور، وبرنتون كرين، ودلا بورتا... باختصار اكتشفت أن علم الثورة هو علم انكلوسكسوني مثله مثل علم الاجتماع أو علم السياسة أو التاريخ.. أما المنتوج الفرنسي الذي يدرس لطلبة المغرب العربي فهو ثرثرة وإضاعة وقت مع بعض الاستثناءات القليلة. حتي الجيل الشاب من الباحثين والجامعيين الفرنسيين المتخلصين من عقدة الوطنية الفرنسية يعتقد اليوم أن فرنسا شديدة التخلف في مجال العلوم الإنسانية بالمقارنة مع العالم الانكلوسكسوني. أذكر مفكرين مثل أوليفياي فيلول أو ميشال فيويوركا اللذين انضما بدورهما إلي العلوم الأمريكية وأقرا بهزالة الانتاج الفرنسي وضحالته.
قد نحب أمريكا سياسيا كما قد نكرهها..لكن علينا أن نعترف أن علومها الاجتماعية والإنسانية هي الأكثر تقدما في العالم، ولا مجال لمقارنتها بما تنتجه فرنسا مثلا.
علم الثورة والوطن العربي
لقد وفر لي الأستاذ أندريه لايبش فرصة الاطلاع علي كثير من النظريات ودراسة كثير من الآثار لعمالقة هذا الاختصاص. وأذكر أنه في آخر حصة، طلب منا التفكير بشكل حر والتفلسف في مفهوم الثورة من دون العودة إلي المنظرين والمفكرين الذين درسناهم. وجاء دوري في الحديث، وأذكر أنني قلت، إن علم الثورة سيكون موضوعه في المستقبل الوطن العربي. فهذا العالم الجيوسياسي بقي وحيدا في طور المرحلة الانتقالية بين الحداثة والتقليدية في حين استقرت بقية دول العالم في النموذج الديمقراطي الليبيرالي، وأنه سيشهد ثورات سلمية في المستقبل من أجل الديموقراطية. وأذكر أيضا أنني قلت إن الثورة لا معني لها إذا ما نظرنا في تاريخ الثورات التي يقوم بها رجال مخلصون مبدئيون يضحون بأرواحهم أو بثلثي أعمارهم..ليجني ثمارها الانتهازيون والوصوليون. وأعطيت أمثلة كثيرة من التاريخ، وقلت لهم (أروني ثورة واحدة عبر التاريخ لم تسرق؟ لم يسرقها أبناؤها؟).
الانقلاب علي المسيحية
تسرق الثورة في وضح النهار.. يسرقها أبناؤها الذين تخفوا فيها من الداخل. يثور عيسي بن مريم عليه السلام باسم الفقراء ومع الفقراء. تواجههم الإمبراطورية الرومانية بالقتل والتنكيل والتعذيب والتشريد..وهذا شيء مفهوم. أما أن تعتنق الإمبراطورية الرومانية فجأة المسيحية وتنكل بنفس الفقراء، لكن هذه المرة باسم حماية المسيحية من الانحراف ومحاربة المهرطقين، فذلك لا يفهمه العقل. لقد ترومت المسيحية ولم تتمسح روما.
الانقلاب علي الإسلام
من حارب الإسلام في بدايته؟ ألم يحاربه بنو أمية بكل قوتهم وجبروتهم. ومن حمل رايته؟ ألم يحملها الفقراء المستضعفون من أمثال بلال بن رباح وعمار بن ياسر..وغيرهما من ضعفاء مكة. ولكن ماذا حدث؟ يا إلهي، إن أعداء الثورة الإسلامية بالأمس يحكمون اليوم باسم الإسلام. بنو أمية في الحكم يرثونه أبا عن جد لحوالي قرن من الزمان. حكام الأمس، ما قبل الإسلام، صاروا حكام اليوم بالإسلام..دائرة مفرغة أم فذلكة تاريخ.
الانقلاب علي الثورة الفرنسية
وينزل الشعب (الشعب هو الطبقة الثالثة: الأولي الإقطاعيون والثانية هي البرجوازية حسب أدبيات الثورة الفرنسية) إلي شوارع باريس ليقتلع الملك لويس السادس عشر من عرشه وينجح في ذلك. يا له من عمل ثوري عظيم، لقد انتصرت أخيرا الأغلبية المحرومة علي الأقلية المستبدة. ولكن ما الذي جري؟ إن المقصلة الفرنسية تقطع رؤوس الثوار باسم الثورة..إنها تفصل رأس الثائر الكبير روبس بيار عن جسده.. وتتمركز البرجوازية الفرنسية في الحكم منذ ثورة 1789 إلي اليوم.. ولا أحدا يهددها في وجودها.. أما ذلك الشعب فقد بقي مجرد شعب!
الانقلاب علي الثورة البلشفية
فلاديمير إليتش أوليانوف لينين يلتف حوله البلاشفة ليغيروا العالم بأفكارهم الثورية. ويتمكن بعبقرية سياسية نادرة من تدمير الدولة القيصرية ثم الحكومة البرجوازية التي تلتها ويقيم أول دولة اشتراكية في العالم. وأخيرا يتنفس الفقراء الصعداء، إنهم يحققون آمالهم بعد قرون وقرون من المعاناة والصبر. إنهم يصلون اليوم إلي السلطة ليبنوا مجتمع آمالهم وأحلامهم. لكن رجل الثورة الأول يموت ويخلفه ستالين. فيصرخ ليون تروتسكي بفزع لقد غدرت الثورة (تروتسكي وكتابه: الثورة المغدورة). الستالينيون يتهمون تروتسكي بالتحريفية ويقولون هذه هي ثورة البروليتاريا الحقيقية. ويموت ستالين ويخلفه نيكيتا خروتشوف. وفي المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي المنعقد سنة 1956 يصيح خروتشوف بكل شجاعة: والآن لنتفس الصعداء بعد أن كنا مختنقين تحت قبضة نظام دكتاتوري، أين كنت يا رفيق خروتشوف بالأمس؟! وفي هذه المرة يصيح الشيوعيون الستاليون بأكثر فزع: إنها النهاية، لقد سرقت الثورة ولم يبق منها إلا ضريح لينين في الساحة الحمراء. أما الرئيس بوريس يلتسين فقد تمكن بفضل إخلاصه للحزب الشيوعي السوفييتي طيلة عقود من الزمن من تسلق الهرم القيادي لهذا الحزب، بعد أن كلت يداه من كثرة التصفيق لدكتاتورية البروليتاريا، مثله مثل رئيسه غورباتشوف، والبقية معروفة.
الانقلاب علي ماوتسي تونغ
في سنة 1919 يجتمع ماوتسي تونغ في شقة متواضعة مع مجموعة من الشيوعيين لا يتجاوز عددهم عدد الأصابع ويقررون تأسيس الحزب الشيوعي الصيني وبداية النضال. وفي سنة 1949 يتمكن الأنفار القليلون بقيادة ماوتسي تونغ من القضاء علي حكومة تشان كاي تشاك ويبدأون تطبيق أحلامهم علي أرض الواقع. ويكتشف ماوتسي تونغ سنة 1965 أن الثورة مهددة من قبل البيروقراطية الجديدة بالسرقة، فأشعل الثورة الثقافية ورفع شعار الأولوية المطلقة للايديولوجيا والتكوين العقائدي الشيوعي علي حساب العمل الاقتصادي ونجاح الأرقام. ويذكر، والعهدة علي الراوي، أن دنغ سياو بنغ، الرجل الذي أعاد تشكيل الصين الحديثة نحو الرأسمالية، قد أركبه الحرس الأحمر علي ظهر حمار وقد أولوا وجهه ذيل الحمار وألبسوه طرطورا أحمر ولفوا به شوارع بكين ثم أدخل إلي السجن..
الانقلاب علي عبد الناصر
ليلة 23 تموز (يوليو) 1952 كان محمد أنور السادات يتسلي في السينما مع زوجته جيهان في حين كان الضباط الأحرار ينجزون أخطر عمل سيغير واقع المنطقة العربية علي مدي ثماني عشرة سنة.. ستنتصر الثورة وتبدأ في تطبيق شعاراتها الثلاثة: الحرية، الاشتراكية، الوحدة.. وتخوض معارك شرسة ضد أعدائها في الداخل والخارج. تنتصر وتنتكس، إلا أنها لا تحيد عن طريقها. ذات مرة قال جمال عبد الناصر لأنور السادات ومحمد حسنين هيكل في جلسة خاصة: (أخاف علي الثورة من الذي سيخلفني، فقد يقدر الأعداء علي استقطابه ومن ثمة يغدر بالثورة)، وهنا صاح أنور السادات (لو أعرف هذا الخائن لأقطع رقبته يا ريس) وتمضي الأيام ويقطع السادات الرأس ويكون، يا للمصادفة، رأس الثورة ذاتها..
الانقلاب علي ثورة 1954 الجزائرية
كانت ثورة الجزائر ثورة فلاحين بأتم معني الكلمة. فالفلاح الجزائري هو الذي ثار، هو الجندي، هو الذي أعطي للثورة بدون حساب. علل الرئيس الراحل هواري بومدين انقلابه في 19 حزيران (يونيو) 1965 علي أحمد بن بلا قائلا (لقد قررنا منذ أيام حرب التحرير أن نواصل ثورتنا بعد الاستقلال، فالفلاح الجزائري لم يثر حتي يصبح (خماسا) لدي الاقطاعيين الجزائريين بعد الاستقلال). مسكين هو الفلاح الجزائري اليوم، لم يكفه الفقر المتقع الذي يعيشه حتي يصبح أسهل فريسة لعصابات الذباحين، وحتي تحتل أخبار المجازر التي ترتكب في حقه الصفحات الأولي من الإعلام الدولي..
نحو علم سرقة الثورة
... وعلي حد قول الدكتور نديم البيطار (إن الظاهرة السياسية إذا تكررت عبر التاريخ، يصبح هناك قانون علمي عام يتحكم فيها)، ونتساءل نحن ما هو هذا القانون العام العلمي الذي يتحكم في ظاهرة سرقة الثورة؟
وفي الختام اقترحت علي البروفيسور أندريه لايبش وعلي زملائي الباحثين أن نؤسس علما جديدا، نسميه علم اجتماع سرقة الثورة، أو علي حد تعبير (الأكاديميين جدا) سوسيولوجيا سرقة الثورة!
فعلاً هناك سراق للثورة على سبيل مثال في ليبيا كم من الدين كانوا يصفقون للقدافي في ساحاتة الخضراء اليوم نراهم يضعون سلالمهم لكي يتسلقوا لقلب الثورة ويحكموننا بأسم الثورة ولن استغرب ان نصبوا لنا لمحاكم وأراهم يصيحون بجنون من الدي سيسرق الثورة سوف نقطع رأس كل من يريد ان يتهجم على ثورة السابع عشر من فبراير سنعدبه سننكل به ...
ردحذفبخصوص الجزائر لم تكن منصفا البتتة لعدة اسباب لانك كنت ولا تزال بعيدا عن عمق الجزائر فكريا وتحليلا ثانيا لن تستطيع انت واكبر المحللين معرفة ما يحدث بها ماضيا وحاضرا ومستقبلا فمقولة ان اعداء الجزائر بالامس هي فرنسا واليوم فرنسا وغدا فرنسا ما بقي مجرد تفاصيل انقلاب على فرحات عباس وبن خدة وجمعية العلماء ثم اغتالوا كل الابطال في الجبال من عميروش وبن مهيدي وغيرهما ،ثم استولى جماعة وجدة على السلطة بالدبابة ثم اختلفوا بينهم فاغتالوا بعضهم وفر بوضياف الى المغرب وايت احمد الى الخارج وغيرهما واغتالوهم هناك الى اغتيال ما تبقى باوامر من فرنسا وجهتها الى كابراتها من الفارين منها الى الثورة كسيناريو معد مسبقا ،والجزائر اليوم ترزح تحت الحكم الفرنسي عن بعد وتعيش الفقر والتخلف والتبعية في الغذاء والدواء تحديدا لفرنسا المحتكرة السوق وترسم من يحكمها رئيسا او اي مسؤول لخدمتها،،،
ردحذف