رياض الصيداوي
حاولت الحركات الإسلامية منذ نكسة 5 حزيران (يونيو) عام 1967 أن ترث كلية حركة القومية العربية التي كان يجسدها الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر من جهة وحزب البعث العربي الاشتراكي من جهة أخري. أرادت أن تكسب الشارع العربي لصالحها نهائيا من أجل تهديم الدول القائمة وإقامة ما تسميه دولة إسلامية . وتحالفت في سبيل ذلك مع دوائر الرأسمالية العالمية ووجدت في واشنطن سندا قويا لها. حيث كانت الولايات المتحدة الأمريكية منشغلة بمحاربة كل ما هو يسار سواء كان شيوعيا أمميا أم قوميا عربيا أم حتي وطنيا محليا. هذه الحركات عاشت مجدها في سنوات الثمانين بانتصار الثورة الإيرانية سنة 1979، وبانتصار المجاهدين الأفغان ضد الاحتلال السوفييتي. لكنها اليوم، بدأت تتقهقر وتخسر في جميع المجالات حيث أصبحت هدف الدول الغربية بعد أن كانت حليفة لها. والأهم من ذلك أن الحركات الإسلامية قامت بتأخير التجربة الديمقراطية في الوطن العربي لخوف الحكومات القائمة منها. فكانت النتيجة أن تضاعفت قوة أجهزة الأمن لمجابهة الخطر الأصولي كما تضاعف حذر هذه الحكومات من ما تسميه بـ المغامرة المتسرعة للديمقراطية ويستدلون علي ذلك بالتجربة الجزائرية.
تراجع المواقف
من الضروري ملاحظة أن الحركات الإسلامية بشكل عام في كل أنحاء الوطن العربي بدأت تراجع مواقفها وإستراتيجيتها جذريا. فقد تبخر حلم إقامة دولة إسلامية بقوة السلاح وعبر منهج الجهاد.. وتبين أن الدولة العربية أكثر قوة بكثير مما كان يتصور وأن الثورة الإيرانية غير قابلة للتصدير كما أن هزيمة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان أمام قوات المجاهدين هي هزيمة جاءت في سياق آخر مختلف تماما عن السياق العربي. هذه الحركات الإسلامية بدأت تغير من خطابها ومن أسلوب عملها وتبتعد عن العنف لتستخدم طرقاً أخري تعتمد علي الاندماج في مكونات المجتمع المدني ومحاولة النضال من خلاله. فنجدها في بعض البلدان تربط علاقات تعاون مع التيارات اليسارية والديمقراطية والليبرالية وتندمج في النقابات ومنظمات حقوق الإنسان وبخاصة في الجمعيات الخيرية. وهي اليوم، تخرج من المحلية الضيقة وتحاول ربط علاقات دولية مع المنظمات غير الحكومية العالمية مثل منظمة العفو الدولي، أو منظمة (مراسلون بلا حدود).. هذه الخيارات الجديدة كانت إفرازا لعملية تفكير في المأساة الجزائرية والخوف من تكرارها في أي بلد. ثم أصبح هذا الخيار مخرجا وحيدا لهذه الحركة بعد أن نجح أسامة بن لادن في تأليب كل العالم عليها.
التجربة الجزائرية
يمكن اعتبار التجربة الجزائرية المفصل الحاسم لإمكانية نجاح ثورة إسلامية أو فشلها. وبعد 10 سنوات من العنف الدموي الذي ذهب ضحيته ما يقارب 200 ألف قتيل، يمكننا الاستنتاج أن هذه التجربة مثلت المحك الأول الذي فشلت عليه أقوي حركة إسلامية عربية في الوصول إلي السلطة. وهي التي فصلت بين عهدين : عهد صعود وانتشار الحركات الإسلامية وعهد هبوطها واندحارها. وكانت الأنظار جميعها متجهة نحو هذا البلد منذ بداية الأزمة.
رغم أن الدول العربية لم تتضامن رسميا مع السلطة الجزائرية في محاربتها للإسلام السياسي ولم تقم بحملة كبيرة لدعمها عسكريا وماديا.. فإنها تعترف، أنظمة المغرب العربي بشكل خاص والأنظمة العربية بشكل عام، ولو ضمنيا دون إعلان ذلك، بفضل المؤسسة العسكرية الجزائرية علي استقرارها عندما قمعت وردعت الجبهة الإسلامية الإنقاذ. فكل القادة العرب يدركون أن ضباط هذا الجيش أنقذوا كل المنطقة العربية من الخطر الإسلامي الأصولي. وهم يدركون أيضا أن نجاح الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الوصول إلي الحكم في الجزائر لن يبقي نجاحا محليا وإنما ستنتشر العدوي إلي جميع أرجاء المنطقة. فتونس عاشت ارتياحا كبيرا منذ تدخل الجيش ووقفه للمسار الانتخابي وقامت بمراقبة حدودها جيدا خوفا من امتداد عدوي الحركات الإسلامية إلي ترابها.
المغرب والحركة الإسلامية
أما المغرب فقد اتبع استراتيجية خاصة به وبخصوصيته الإقليمية: فهذا البلد يريد أن يكون في الوقت نفسه مملكة تعيش التقليد والحداثة. فهو يريد من جهة أن يسرع الخطي في تجربته الليبرالية الإصلاحية حتي يوطد تجربته الديمقراطية الناشئة، ولكنه يخشي من جهة أخري انتصارا كبيرا ساحقا للإسلاميين في الانتخابات المقبلة. ذلك أن بعض المراقبين نبهوا إلي إمكانية حدوث فوز الإسلاميين علي حساب ترهل اليسار التقليدي وهو ما سيجبر السلطة المغربية علي مواجهة مثل هذه النتيجة بسرعة وبدون ارتباك حتي لا يعاد سيناريو الجزائر. وتوجد مؤشرات عدة دالة من بينها: المتابعة اليومية للإسلاميين ومضايقتهم أمنيا، حيث أغلقت بعض مواقعهم علي الإنترنت ومنعوا من إقامة معسكراتهم التربوية علي شاطئ البحر.. ويبدو من خلال هذه الحوادث المتتالية، أن السلطة المغربية عازمة علي ردع الحركة الإسلامية عندما تحاول تشكيل خطر حقيقي علي النظام. فهي استفادت كثيرا من التجربتين الجزائرية أو التونسية. وفي المقابل، يجب التنبيه إلي أن الحركة الإسلامية المغربية أيضا استفادت بدورها من تجربة جارتها الجزائرية. فالطرفان يبدوان عازمين علي تفادي إعادة المأساة الجزائرية ودفع ثمن باهظ لعملية ديمقراطية لم تتم بسلام. كما يبدو أن الإسلاميين المغاربة يميلون إلي عملية الأسلمة من القاعدة كمنهج سلمي يتجنب العنف ويستخدم بدلا منه طرق التضامن الاجتماعي والجمعيات الخيرية حتي لا يصطدمون مباشرة بملك يشغل موقع أمير المؤمنين. وهم يجدون أنفسهم مضطرين لانتهاج منهج الاعتدال في إطار دولي معاد لكل ما هو حركة إسلامية.
التجربة المصرية
يمكن اعتبار التجربة المصرية مرجعية أساسية وأولي في فهم تطورات الحركات الإسلامية وتحولاتها في الوطن العربي، حدث أنْ أعرب كثير من قادة الجماعات الإسلامية المسلحة عن تخليهم عن منهج استخدام العنف وقاموا بحوارات مع السلطة المصرية شارك في التوسط فيها محاميهم منتصر الزيات ليتحولوا نحو خطاب معتدل يتجنب العنف وليوقفوا بشكل كبير عملياتهم العسكرية المسلحة ضد الدولة ورموزها. لقد توصلوا بعد مراجعة ونقد ذاتيين إلي نتيجة مفادها أن العنف المسلح لم يسقط النظام وإنما علي العكس قوي من قدراته الأمنية والمخابراتية وجعله يشد الخناق عليهم وعلي أنشطتهم. هذا التطور له دلالات كبري، إذ يعني بالدرجة الأولي اعتراف الحركات الإسلامية المصرية العنيفة بفشلها في الوصول إلي الحكم عن طريق القوة.
دور أسامة بن لادن
من الممكن القول إن الحركات الإسلامية في الوطن العربي وفي العالم هي أول الخاسرين من الهجمات الانتحارية التي استهدفت نيويورك وواشنطن في 11 ايلول (سبتمبر) عام 2001، فأسامة بن لادن وجه ضربة قاسمة للحركات التي تشترك معه في الأيديولوجيا نفسها: أي الأصولية الإسلامية. وثاني الخاسرين هم العرب والمسلمون والإسلام. فإذا كان لبن لادن عبقرية: فهي تتمثل في حشده الأعداء وتجميعهم ضد العرب. فالهند الصديق التقليدي للقضية العربية الفلسطينية أصبحت عدوا كذلك الصين وروسيا وأمريكا وكل المسيحيين في العالم. أصبح العالم كله في جبهة واحدة لمناهضتنا وأصبح العربي محل شبهة علي متن طائرة صينية ولا أقول أمريكية. كما أصبح العرب عرضة للمضايقات والتفتيش والمراقبة الأمنية المستمرة في أوروبا وبخاصة في أمريكا. نجد عشرات الملايين العرب المهاجرين يعانون منذ 11 ايلول (سبتمبر) من فعلة بن لادن.
خسارة الحركات الإسلامية
لقد أصبحت هذه الحركات الإسلامية عالمية كانت أم عربية في حصار شديد منذ هجمات 11 ايلول (سبتمبر) عام 2001 الانتحارية ضد برجي مركز التجارة العالمي والبنتاغون في أمريكا. حيث أصبحت محاصرة من قبل حكوماتها في الداخل ومن قبل الدول الغربية في الخارج.. وهو ما سيدفعها نهائيا إلي نبذ كل أشكال العنف خطابا وحركة حتي تستطيع أن تطرح نفسها كقوي سياسية مقبولة من المجتمع الدولي. ولنتذكر أن هذه الحركات نفسها كانت تجد نوعا من التفهم من قبل الحكومات الغربية وتتعاطف معها منظمات حقوق الإنسان الدولية، وحتي في الجامعات ومراكز البحوث الغربية وجدت تيارات فكرية تدعو إلي ضرورة إعطاء الإسلاميين فرصة الحكم وممارسته. بل وصل الأمر إلي شن حملات إعلامية عنيفة ضد السلطات التي تصدت في بلدانها للإسلام السياسي. فضباط الجيش الجزائري مثلا حصلوا علي النصيب الأكبر من الاتهامات التي كادت توصلهم إلي محاكمات دولية كمجرمي حرب. كما انتقدت الأنظمة المصرية والتونسية والسورية بشكل قوي في أسلوبها الذي حاربت به هذه الحركات. لم يكن الغرب بصفة عامة مرتاحا لعمليات التعبئة الجماهرية التي تقوم بها الحركات الإسلامية في مواجهة أنظمتها وفي مواجهة الغرب ذاته الذي اقتصر الصراع معه علي الخطاب، لكن في الآن نفسه كان مستعدا للتعامل معها كواقع موجود علي الساحة السياسية. وقد استفادت كثيرا من الحريات المتوفرة فيه لتنشر دعوتها وخطابها وتفعل ما لا تستطيع فعله في أوطانها حتي أن بعضاً ذهب إلي أن لندن هي القلعة الفعلية للإسلام السياسي وليست قندهار ولا كابول. وذلك لتعدد التنظيمات، والوجوه الراديكالية التي تنادي بالجهاد، وكثرة النشرات التي تطبع... دون محاسب ولا رقيب. اليوم، لم تعد لندن مرتعا خصبا كما في الماضي للحركات الإسلامية، بل علي العكس أصبحت مراقبة هذه الحركات يومية والضغوط علي قادتها منهجية ونسقية.
انتهاء التفهم الغربي
بداية نزول الحركات الإسلامية تم رصده مبكرا، حيث كانت مراكز القرار والفكر في الغرب تدرك أن الحركات الإسلامية في الوطن العربي قد خسرت المعركة بخسارة حربها ضد الجيش الجزائري. حيث مثلت التجربة الجزائرية خط الدفاع الأول للأنظمة العربية الذي صمد في مرحلة أولي ثم انتصر أو أوشك في المرحلة الثانية. تفطن عالم السياسة الفرنسي أوليفياي كاري مبكرا إلي بداية هبوط الحركات الإسلامية وأصدر كتابه الذي أثار الانتباه وعنوانه فشل الإسلام السياسي ثم جاء بعده جيل كيبيل المختص الفرنسي في الوطن العربي والعالم الإسلامي وأصدر سنة 2000 كتابه الجهاد: توسع وانحطاط الإسلامية . وحتي خبراء ومفكرو الغرب يرون اليوم في هجمات 11 ايلول (سبتمبر) تأكيدا لرأيهم اعتمادا علي نظرية في علم السياسة تقول إن الالتجاء إلي الإرهاب يتم حينما تفشل الحركة السياسية في عمليات الاستقطاب والتعبئة الجماهيرية فتلتجئ إلي العمليات الإرهابية كآخر حل لتبقي طافحة علي الساحة ولا تندثر. والمثال الأبرز علي هذه النظرية هو اليسار الأوروبي الذي كان شعبيا في الستينيات حتي وصل أوجه في أحداث ايار (مايو) سنة 1968 ثم أصاب نفس هذا اليسار الضعف في أواخر السبعينيات فالتجأ إلي تشكيل التنظيمات الإرهابية ليحافظ علي وجوده، فبرزت منظمات الجيش الأحمر والعمل المباشر والأولية الحمراء.
سيستمر هبوط الحركات الإسلامية في المستقبل، باستثناء الحركات الإسلامية المندرجة في إطار حركة التحرير الوطني مثل حزب الله في لبنان أو حماس في فلسطين.. وستترك هذه الحركات فراغا بدأت حركة الديمقراطية في الوطن العربي في ملئه. فالمستقبل سيكون لتيار الحرية والديمقراطية والحداثة وحقوق الإنسان في مقابل الحركات الأيديولوجية الكليانية السلطوية التي بدأ نجمها في الأفول.
حاولت الحركات الإسلامية منذ نكسة 5 حزيران (يونيو) عام 1967 أن ترث كلية حركة القومية العربية التي كان يجسدها الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر من جهة وحزب البعث العربي الاشتراكي من جهة أخري. أرادت أن تكسب الشارع العربي لصالحها نهائيا من أجل تهديم الدول القائمة وإقامة ما تسميه دولة إسلامية . وتحالفت في سبيل ذلك مع دوائر الرأسمالية العالمية ووجدت في واشنطن سندا قويا لها. حيث كانت الولايات المتحدة الأمريكية منشغلة بمحاربة كل ما هو يسار سواء كان شيوعيا أمميا أم قوميا عربيا أم حتي وطنيا محليا. هذه الحركات عاشت مجدها في سنوات الثمانين بانتصار الثورة الإيرانية سنة 1979، وبانتصار المجاهدين الأفغان ضد الاحتلال السوفييتي. لكنها اليوم، بدأت تتقهقر وتخسر في جميع المجالات حيث أصبحت هدف الدول الغربية بعد أن كانت حليفة لها. والأهم من ذلك أن الحركات الإسلامية قامت بتأخير التجربة الديمقراطية في الوطن العربي لخوف الحكومات القائمة منها. فكانت النتيجة أن تضاعفت قوة أجهزة الأمن لمجابهة الخطر الأصولي كما تضاعف حذر هذه الحكومات من ما تسميه بـ المغامرة المتسرعة للديمقراطية ويستدلون علي ذلك بالتجربة الجزائرية.
تراجع المواقف
من الضروري ملاحظة أن الحركات الإسلامية بشكل عام في كل أنحاء الوطن العربي بدأت تراجع مواقفها وإستراتيجيتها جذريا. فقد تبخر حلم إقامة دولة إسلامية بقوة السلاح وعبر منهج الجهاد.. وتبين أن الدولة العربية أكثر قوة بكثير مما كان يتصور وأن الثورة الإيرانية غير قابلة للتصدير كما أن هزيمة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان أمام قوات المجاهدين هي هزيمة جاءت في سياق آخر مختلف تماما عن السياق العربي. هذه الحركات الإسلامية بدأت تغير من خطابها ومن أسلوب عملها وتبتعد عن العنف لتستخدم طرقاً أخري تعتمد علي الاندماج في مكونات المجتمع المدني ومحاولة النضال من خلاله. فنجدها في بعض البلدان تربط علاقات تعاون مع التيارات اليسارية والديمقراطية والليبرالية وتندمج في النقابات ومنظمات حقوق الإنسان وبخاصة في الجمعيات الخيرية. وهي اليوم، تخرج من المحلية الضيقة وتحاول ربط علاقات دولية مع المنظمات غير الحكومية العالمية مثل منظمة العفو الدولي، أو منظمة (مراسلون بلا حدود).. هذه الخيارات الجديدة كانت إفرازا لعملية تفكير في المأساة الجزائرية والخوف من تكرارها في أي بلد. ثم أصبح هذا الخيار مخرجا وحيدا لهذه الحركة بعد أن نجح أسامة بن لادن في تأليب كل العالم عليها.
التجربة الجزائرية
يمكن اعتبار التجربة الجزائرية المفصل الحاسم لإمكانية نجاح ثورة إسلامية أو فشلها. وبعد 10 سنوات من العنف الدموي الذي ذهب ضحيته ما يقارب 200 ألف قتيل، يمكننا الاستنتاج أن هذه التجربة مثلت المحك الأول الذي فشلت عليه أقوي حركة إسلامية عربية في الوصول إلي السلطة. وهي التي فصلت بين عهدين : عهد صعود وانتشار الحركات الإسلامية وعهد هبوطها واندحارها. وكانت الأنظار جميعها متجهة نحو هذا البلد منذ بداية الأزمة.
رغم أن الدول العربية لم تتضامن رسميا مع السلطة الجزائرية في محاربتها للإسلام السياسي ولم تقم بحملة كبيرة لدعمها عسكريا وماديا.. فإنها تعترف، أنظمة المغرب العربي بشكل خاص والأنظمة العربية بشكل عام، ولو ضمنيا دون إعلان ذلك، بفضل المؤسسة العسكرية الجزائرية علي استقرارها عندما قمعت وردعت الجبهة الإسلامية الإنقاذ. فكل القادة العرب يدركون أن ضباط هذا الجيش أنقذوا كل المنطقة العربية من الخطر الإسلامي الأصولي. وهم يدركون أيضا أن نجاح الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الوصول إلي الحكم في الجزائر لن يبقي نجاحا محليا وإنما ستنتشر العدوي إلي جميع أرجاء المنطقة. فتونس عاشت ارتياحا كبيرا منذ تدخل الجيش ووقفه للمسار الانتخابي وقامت بمراقبة حدودها جيدا خوفا من امتداد عدوي الحركات الإسلامية إلي ترابها.
المغرب والحركة الإسلامية
أما المغرب فقد اتبع استراتيجية خاصة به وبخصوصيته الإقليمية: فهذا البلد يريد أن يكون في الوقت نفسه مملكة تعيش التقليد والحداثة. فهو يريد من جهة أن يسرع الخطي في تجربته الليبرالية الإصلاحية حتي يوطد تجربته الديمقراطية الناشئة، ولكنه يخشي من جهة أخري انتصارا كبيرا ساحقا للإسلاميين في الانتخابات المقبلة. ذلك أن بعض المراقبين نبهوا إلي إمكانية حدوث فوز الإسلاميين علي حساب ترهل اليسار التقليدي وهو ما سيجبر السلطة المغربية علي مواجهة مثل هذه النتيجة بسرعة وبدون ارتباك حتي لا يعاد سيناريو الجزائر. وتوجد مؤشرات عدة دالة من بينها: المتابعة اليومية للإسلاميين ومضايقتهم أمنيا، حيث أغلقت بعض مواقعهم علي الإنترنت ومنعوا من إقامة معسكراتهم التربوية علي شاطئ البحر.. ويبدو من خلال هذه الحوادث المتتالية، أن السلطة المغربية عازمة علي ردع الحركة الإسلامية عندما تحاول تشكيل خطر حقيقي علي النظام. فهي استفادت كثيرا من التجربتين الجزائرية أو التونسية. وفي المقابل، يجب التنبيه إلي أن الحركة الإسلامية المغربية أيضا استفادت بدورها من تجربة جارتها الجزائرية. فالطرفان يبدوان عازمين علي تفادي إعادة المأساة الجزائرية ودفع ثمن باهظ لعملية ديمقراطية لم تتم بسلام. كما يبدو أن الإسلاميين المغاربة يميلون إلي عملية الأسلمة من القاعدة كمنهج سلمي يتجنب العنف ويستخدم بدلا منه طرق التضامن الاجتماعي والجمعيات الخيرية حتي لا يصطدمون مباشرة بملك يشغل موقع أمير المؤمنين. وهم يجدون أنفسهم مضطرين لانتهاج منهج الاعتدال في إطار دولي معاد لكل ما هو حركة إسلامية.
التجربة المصرية
يمكن اعتبار التجربة المصرية مرجعية أساسية وأولي في فهم تطورات الحركات الإسلامية وتحولاتها في الوطن العربي، حدث أنْ أعرب كثير من قادة الجماعات الإسلامية المسلحة عن تخليهم عن منهج استخدام العنف وقاموا بحوارات مع السلطة المصرية شارك في التوسط فيها محاميهم منتصر الزيات ليتحولوا نحو خطاب معتدل يتجنب العنف وليوقفوا بشكل كبير عملياتهم العسكرية المسلحة ضد الدولة ورموزها. لقد توصلوا بعد مراجعة ونقد ذاتيين إلي نتيجة مفادها أن العنف المسلح لم يسقط النظام وإنما علي العكس قوي من قدراته الأمنية والمخابراتية وجعله يشد الخناق عليهم وعلي أنشطتهم. هذا التطور له دلالات كبري، إذ يعني بالدرجة الأولي اعتراف الحركات الإسلامية المصرية العنيفة بفشلها في الوصول إلي الحكم عن طريق القوة.
دور أسامة بن لادن
من الممكن القول إن الحركات الإسلامية في الوطن العربي وفي العالم هي أول الخاسرين من الهجمات الانتحارية التي استهدفت نيويورك وواشنطن في 11 ايلول (سبتمبر) عام 2001، فأسامة بن لادن وجه ضربة قاسمة للحركات التي تشترك معه في الأيديولوجيا نفسها: أي الأصولية الإسلامية. وثاني الخاسرين هم العرب والمسلمون والإسلام. فإذا كان لبن لادن عبقرية: فهي تتمثل في حشده الأعداء وتجميعهم ضد العرب. فالهند الصديق التقليدي للقضية العربية الفلسطينية أصبحت عدوا كذلك الصين وروسيا وأمريكا وكل المسيحيين في العالم. أصبح العالم كله في جبهة واحدة لمناهضتنا وأصبح العربي محل شبهة علي متن طائرة صينية ولا أقول أمريكية. كما أصبح العرب عرضة للمضايقات والتفتيش والمراقبة الأمنية المستمرة في أوروبا وبخاصة في أمريكا. نجد عشرات الملايين العرب المهاجرين يعانون منذ 11 ايلول (سبتمبر) من فعلة بن لادن.
خسارة الحركات الإسلامية
لقد أصبحت هذه الحركات الإسلامية عالمية كانت أم عربية في حصار شديد منذ هجمات 11 ايلول (سبتمبر) عام 2001 الانتحارية ضد برجي مركز التجارة العالمي والبنتاغون في أمريكا. حيث أصبحت محاصرة من قبل حكوماتها في الداخل ومن قبل الدول الغربية في الخارج.. وهو ما سيدفعها نهائيا إلي نبذ كل أشكال العنف خطابا وحركة حتي تستطيع أن تطرح نفسها كقوي سياسية مقبولة من المجتمع الدولي. ولنتذكر أن هذه الحركات نفسها كانت تجد نوعا من التفهم من قبل الحكومات الغربية وتتعاطف معها منظمات حقوق الإنسان الدولية، وحتي في الجامعات ومراكز البحوث الغربية وجدت تيارات فكرية تدعو إلي ضرورة إعطاء الإسلاميين فرصة الحكم وممارسته. بل وصل الأمر إلي شن حملات إعلامية عنيفة ضد السلطات التي تصدت في بلدانها للإسلام السياسي. فضباط الجيش الجزائري مثلا حصلوا علي النصيب الأكبر من الاتهامات التي كادت توصلهم إلي محاكمات دولية كمجرمي حرب. كما انتقدت الأنظمة المصرية والتونسية والسورية بشكل قوي في أسلوبها الذي حاربت به هذه الحركات. لم يكن الغرب بصفة عامة مرتاحا لعمليات التعبئة الجماهرية التي تقوم بها الحركات الإسلامية في مواجهة أنظمتها وفي مواجهة الغرب ذاته الذي اقتصر الصراع معه علي الخطاب، لكن في الآن نفسه كان مستعدا للتعامل معها كواقع موجود علي الساحة السياسية. وقد استفادت كثيرا من الحريات المتوفرة فيه لتنشر دعوتها وخطابها وتفعل ما لا تستطيع فعله في أوطانها حتي أن بعضاً ذهب إلي أن لندن هي القلعة الفعلية للإسلام السياسي وليست قندهار ولا كابول. وذلك لتعدد التنظيمات، والوجوه الراديكالية التي تنادي بالجهاد، وكثرة النشرات التي تطبع... دون محاسب ولا رقيب. اليوم، لم تعد لندن مرتعا خصبا كما في الماضي للحركات الإسلامية، بل علي العكس أصبحت مراقبة هذه الحركات يومية والضغوط علي قادتها منهجية ونسقية.
انتهاء التفهم الغربي
بداية نزول الحركات الإسلامية تم رصده مبكرا، حيث كانت مراكز القرار والفكر في الغرب تدرك أن الحركات الإسلامية في الوطن العربي قد خسرت المعركة بخسارة حربها ضد الجيش الجزائري. حيث مثلت التجربة الجزائرية خط الدفاع الأول للأنظمة العربية الذي صمد في مرحلة أولي ثم انتصر أو أوشك في المرحلة الثانية. تفطن عالم السياسة الفرنسي أوليفياي كاري مبكرا إلي بداية هبوط الحركات الإسلامية وأصدر كتابه الذي أثار الانتباه وعنوانه فشل الإسلام السياسي ثم جاء بعده جيل كيبيل المختص الفرنسي في الوطن العربي والعالم الإسلامي وأصدر سنة 2000 كتابه الجهاد: توسع وانحطاط الإسلامية . وحتي خبراء ومفكرو الغرب يرون اليوم في هجمات 11 ايلول (سبتمبر) تأكيدا لرأيهم اعتمادا علي نظرية في علم السياسة تقول إن الالتجاء إلي الإرهاب يتم حينما تفشل الحركة السياسية في عمليات الاستقطاب والتعبئة الجماهيرية فتلتجئ إلي العمليات الإرهابية كآخر حل لتبقي طافحة علي الساحة ولا تندثر. والمثال الأبرز علي هذه النظرية هو اليسار الأوروبي الذي كان شعبيا في الستينيات حتي وصل أوجه في أحداث ايار (مايو) سنة 1968 ثم أصاب نفس هذا اليسار الضعف في أواخر السبعينيات فالتجأ إلي تشكيل التنظيمات الإرهابية ليحافظ علي وجوده، فبرزت منظمات الجيش الأحمر والعمل المباشر والأولية الحمراء.
سيستمر هبوط الحركات الإسلامية في المستقبل، باستثناء الحركات الإسلامية المندرجة في إطار حركة التحرير الوطني مثل حزب الله في لبنان أو حماس في فلسطين.. وستترك هذه الحركات فراغا بدأت حركة الديمقراطية في الوطن العربي في ملئه. فالمستقبل سيكون لتيار الحرية والديمقراطية والحداثة وحقوق الإنسان في مقابل الحركات الأيديولوجية الكليانية السلطوية التي بدأ نجمها في الأفول.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق