الثلاثاء، 7 أبريل 2009

صراع العسكر والإسلاميين في الجزائر: من العجز إلى الانتصار

رياض الصيداوي: كاتب وباحث في العلوم السياسية-جنيف


عجز القادة الجزائريون، عسكريين كانوا أو سياسيين، إلى حد اليوم عن استئصال العنف الإسلامي المسلح الخارج عن الدولة. سؤالان يطرحان نفسيهما. أولا، أين يكمن هذا العجز؟ ثانيا، ما هي الأسباب الموضوعية التي أدت إلى هذا العجز؟

1- مراحل العجز

كيف ظهر هذا العجز لدى النظام الجزائري؟ الإجابة الأولى تكمن في مساعيه لأكثر من مرة في الحوار مع قادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ من أجل ما سماه بمصالحة وطنية. لقد قام، قبل وصول الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، بثلاثة مبادرات كبرى تجاه الحزب المنحل في سبيل إيجاد حل سلمي.

أبرز عالم الاجتماع الجزائري لهواري عدي ظاهرة سعي السلطات من أجل الحوار على أساس أنها غير قادرة على إحلال السلم المدني. حيث دارت أول محاولة للحوار مبكرا تحديدا في شتاء سنتي 1993-1994.[1] كان هدف هذه المحاولة تشكيل تحالفا حكوميا كبيرا يضم كل التشكيلات السياسية بما فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ. ولم يشترط النظام العسكري إلا شرطين. التنديد بالعنف الحاصل والكفاح ضد الإرهاب من جهة وضرورة أن يكون تعيين رئيس الدولة من صلاحيات الجيش وحده[2]. والأكثر من ذلك أعربت السلطات عن استعدادها لإعطاء مجموعة من الوزارات لإسلاميي الإنقاذ، باستثناء وزارات السيادة، أي الدفاع، الداخلية والخارجية[3]. وفي المقابل رفضت الجبهة الإسلامية للإنقاذ هذه العروض معتقدة أن الزمن يعمل لصالحها وأن انتصارها محتوم لا محالة إن آجلا أو عاجلا.

كما بينت المحاولة الثانية للسلطات الجزائرية في سبيل إجراء حوار مع الحزب المنحل مدى شعورها بالعجز تجاه تفاقم العنف وخروجه من سيطرتها. فبعد أن عين اليامين زروال رئيسا للدولة على إثر الندوة الوطنية التي عقدت أيام 23 إلى 26 يناير/كانون الثاني 1994. قام بأول مسعى من أجل المصالحة في صيف 1994. فوضع عباسي مدني وعلي بن حاج تحت الإقامة الجبرية بعد أن تم إخراجهما من السجن. وأجرى محادثات مكثفة معها. لكن فشل المسعى مرة أخرى في أواخر شهر أكتوبر/تشرين الأول من نفس السنة بعد تعنت علي بن حاج ودعوته المستمرة للعنف الذي وصفه بالجهاد. شرح الرئيس اليامين زروال سبب الفشل في خطاب له للتلفزيون الجزائري ذكر فيه أن الإسلاميين لم يكونوا مستعدين للعودة إلى السلم، وأن الدولة عازمة من هنا فصاعدا على استئصالهم[4].

أما محاولة الحوار الثالثة، والتي دلت على عجز السلطات الجزائرية، فقد تمت في شهر حزيران / يونيو 1995. تحدثت الصحافة المحلية في هذه الفترة عن إمكانية الوصول إلى اتفاق قريب بين رئاسة الجمهورية وقيادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ. وجرت محادثات سرية بين الطرفين. ولكن مرة أخرى تفشل المحاولة بعد أن أدلت رئاسة الجمهورية ببيان أفادت فيه بفشل المفاوضات وحملت الإسلاميين مسؤولية هذا الفشل[5].

لم يتصور العسكريون في حقيقة الأمر أبدا إمكانية أن يمتد العنف بهذا الحجم وبهذا الزمن. ولم يخطر على بالهم أن تدخلهم سيؤدي إلى "حرب أهلية" طويلة الأمد. كانوا ينتظرون "بضعة اضطرابات لدى الشارع الجزائري تمتد لبضعة أشهر وتخرج من المساجد، وتنتهي بالتلاشي أمام عملية قمع وتحييد الكوادر الأكثر الخطورة"[6]. ويشرح لهواري عدي إستراتيجية العسكريين في محاولتهم تحييد ومن ثمة استئصال مناضلي الجبهة الإسلامية للإنقاذ من خلال القوة، فيذكر أنهم اعتمدوا في الآن نفسه أيضا على إستراتيجية موازية هدفت إلى "استئناسهم ثم تشريكهم في الحكم"[7]. ويستنتج أن ما حدث يعبر عن تناقض شديد لدى العسكريين. "فمن جهة يريدون إنهاءهم من خلال عمليات قمع كثيف، ومن جهة أخرى يتحاورون معهم من أجل التوصل إلى حل وسط تكون فيه السلطة الحقيقية بيد العسكر"[8].

لقد تمثلت خطة العسكريين في الواقع ومنذ بداية أزمة 1992 في عزل قيادة الإنقاذ عن قاعدتها الشعبية. وحتى تحقق هذا الهدف قاموا باعتقال للقادة والكوادر الوسطى ووضعهم في السجن، أو الإلقاء بأغلبهم في معتقلات جماعية في جنوب الصحراء. وشجعوا في الوقت نفسه بعض نشطي وقادة الإنقاذ على التمرد على الجبهة والانسحاب منها والالتحاق بصفوف السلطة. لكن هذه الخطة لم تنجح، بل أدت إلى فشل ذريع خاصة في الفترة الممتدة بين 1992 و1994. هذا الفشل، حسب لهواري عدي، جاء نتيجة لحسابات خاطئة قام بها العسكريون الذين لم يعطوا الأهمية اللازمة لثلاثة عوامل رئيسية وهي "أولا : عدم شعبية النظام ومساندة قسم من الشعب للجبهة الإسلامية للإنقاذ، ثانيا: التأثير المباشر الذي أحدثه إيقاف الانتخابات كصاعق أدى إلى الانفجار لدى شباب كبت لمدة طويلة تطلعه لاستخدام السلاح. ثالثا: التضامن العائلي أو الجهوي إضافة للمدى الذي وصلت إليه عمليات القمع التي دارت خارج إطار القانون وحقوق الإنسان"[9].

2- أسباب العجز

يتساءل الباحث الفرنسي إيف لاكوست Yves Lacoste : لماذا فشل العسكر إذن في إنهاء ظاهرة العنف الإسلامي المسلح بعد أكثر من سبع سنوات من القتال ورغم أن الدولة الجزائرية امتلكت منذ الاستقلال جهازا أمنيا شديد الصلابة والفاعلية على رأسه ما يعرف بالأمن العسكري؟[10]

توجد الإجابة في كثير من العوامل، سنحاول تقسيمها إلى نوعين: عوامل ذاتية وأخرى موضوعية.

أ‌- العوامل الذاتية

يمكننا حصر العوامل الذاتية في:

1- ثقافة الكفاح التي اكتسبها الجزائريون أثناء حرب التحرير الوطني (1954-1962) وتميزت بتمجيد البطولة وتثمين مفهوم الشهادة و"الصعود إلى الجبل" احتجاجا على جور المستعمر وظلمه. لجأ إسلاميو الإنقاذ إلى هذا المخزون الجماعي الحي في ذاكرة الجزائريين ليعيدوا إحياؤه لدى مجموعة من الناس مستخدمين خطابا تعبويا يطابق بين المستعمر بالأمس وقادة الجيش اليوم الذين يوصفون ب"حزب فرنسا".

2- التأثير المباشر لما يشبه أممية إسلامية، وخاصة التأثير المعنوي الذي لعبه كل من انتصار الثورة الإيرانية ستة 1979 وإخراج المجاهدين الأفغان للمحتل الروسي من أرضهم..كل هذه العوامل أدت إلى إحداث شعور عام بقرب نهضة إسلامية كبرى تشمل العالم كله وتعيد مجد الإسلام والمسلمين، وبالتالي على الجزائريين أن يؤدوا دورهم في معركة الجهاد الكبرى هذه.

ب‌- العوامل الموضوعية

ترتبط العوامل الموضوعية بالعوامل الذاتية السابقة ارتباطا وثيقا. فبعضها في علاقة مع طبيعة النظام الجزائري المنقسم على نفسه بين أجنحة شديدة الصراع حول الاختيارات الكبرى. وبعضها الآخر متعلق بطبيعة أرض المعركة وتضاريسها الوعرة.

1- إن مساحة التراب الجزائري شديدة الاتساع فهي تبلغ تحديدا ( 2 376 400 كم2 ). ويتميز الشمال بجباله الكثيرة الوعرة التي تمتد من الحدود التونسية شرقا إلى الحدود المغربية غربا. أما الوسط فهو شبه جاف، في حين أن الجنوب صحراوي. لابد من الانتباه أن كل العمليات العسكرية التي حدثت وتحدث في الجزائر تمتد على امتداد سلسلة الجبال الشمالية ومن ثمة نفهم السهولة التي ينتقل بها المقاتلون من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق مرورا بالوسط دون أن يخرجوا من حماية هذه الجبال. لقد كانت نفس الإستراتيجية التي اتبعها جيش التحرير الوطني أثناء حرب التحرير ونجحت ضد الاحتلال الفرنسي. لنذكر أن فرنسا وظفت حوالي نصف مليون جندي وضابط بغاية القضاء على بضعة آلاف من المجاهدين مستخدمة كل ترسانتها من الأسلحة... ورغم ذلك عجزت في تحقيق أهدافها وإنهاء الثورة المسلحة، فما بالك بالجيش الوطني الشعبي الجزائري الذي لا يتعدى اليوم120 ألف مقاتل. فصعوبة ميدان المعركة جعل من إمكانية خروج ثوار على النظام وعلى الدولة مسألة ممكنة توفرها الأدغال والغابات والجبال[11].

2- وجد الجيش الجزائري صعوبة كبيرة، خاصة في بداية الأزمة، في التكيف مع حرب العصابات التي فرضت عليه. فهو جيش تقليدي بطبيعته يعتمد على العقيدة الروسية في القتال أي الهجوم الجبهوي المدرع بمساندة الطائرات, وحينما وجد نفسه أمام أسلوب قتال جديد استلزمه كثير من الوقت حتى يتكيف مع حرب العصابات الخاطفة. فأعاد تدريب قواته الخاصة على مثل هذه الحروب كما أعاد ترتيب قيادته الميدانية بإعطاء صلاحيات أكثر للضباط المشاركين في القتال دون الرجوع إلى قيادة الأركان المركزية في وزارة الدفاع. مما جعله يحقق بعض النجاحات الهامة ابتداء من سنة 1995.

3- اشتداد الردع وضعف "الإنقاذ"

يرى المفكر الأمريكي شارلز تيلي Charles Tilly بوجود أشكال كثيرة من الردع والقمع التي يمكن للسلطات الحاكمة انتهاجها في سبيل القضاء على تعبئة المعارضة. فالنظام القائم يمكنه مثلا زرع الاضطرابات داخل التنظيم المعارض. كما يمكنه منع المعارضة من الوصول إلى أية مصادر دعم بشري أو مادي مثل التمويل والمساعدات المالية التي تتلقاها. وأخيرا يمكن للنظام أن يستخدم القمع المباشر والشامل ليحطم قوة المعارضة[12]. وفي الحالة الجزائرية جرى استخدام الوسائل الثلاثة معا.

منذ وصول الرئيس اليامين زروال إلى السلطة وترؤسه الدولة الجزائرية، برزت على السطح ظاهرتان جديدتان لصالح النظام. فقد تم أولا تدعيم مؤسسة الدولة التي ازدادت صلابة بعد الخروج من أزمة الفراغ الدستوري الذي عاشته البلاد تحت حكم المجلس الأعلى للدولة. إذ عادت مؤسسة الرئاسة كما كانت من قبل (طبعا من الناحية الدستورية لأنها عملية أصبحت ضعيفة أمام سيطرة قيادة الجيش). وتطورت ثانيا قدرات الجيش الجزائري في حربه مع التنظيمات الإسلامية المسلحة. وفي المقابل شهدت الجبهة الإسلامية للإنقاذ ضعفا شديدا سواء على المستوى السياسي أو المستوى العسكري. هذان العاملان تسببا في إضعاف "الوضعية الثورية" التي سادت من قبل لصالح "الإنقاذ". أما الآن فهي في طريقها للتلاشي النهائي. لقد حقق الجيش انتصارات كثيرة على الأرض.

أ- نجاح الردع العسكري

انتصر الجيش الجزائري عمليا في كثير من المعارك منذ سنة 1995. حيث قام بعمليات عسكرية كثيرة ناجحة خاصة في مواجهة الجماعة الإسلامية المسلحة. فتمكن من ضرب كثيرا من قواعدها، قتل كثيرا من قادتها والأهم من ذلك تمكن من اختراقها وتمزيقها إلى مجموعات صغيرة متقاتلة فيما بينها. وفي الآن نفسه توصل إلى إقناع الجيش الإسلامي للإنقاذ بعقد هدنة من جانب واحد في أواخر سنة 1997 انتهت باستسلام عناصره لقوات الأمن الجزائرية، بل ومساعدتها في قتال الجماعة الإسلامية المسلحة والدخول في مشروع مصالحة واسع سمي ب"الوئام المدني" لقي مباركة واسعة من قبل الشعب الجزائري بعد استفتاء دار حوله.

ولا بد من التدقيق في أن الجيش الجزائري اليوم يعد تقريبا بين 150 ألف و180 ألف جندي وضابط. وهو قادر على مضاعفة حجمه إما بتمديد مدة العاملين فيه من الاحتياط أو حتى تعبئة من كان منهم خارجه ويعيش حياة مدنية، وهو ما حدث مثلا أثناء انتخابات 1997 [13]. إضافة إلى ذلك نجد حوالي 60 ألف رجلا يمثلون القوى الخاصة المكلفة بملاحقة الإسلاميين وقتالهم، حيث وقع انتقائهم من الرجال النخبة لدى قوات الشرطة والدرك والجيش[14].

أما في ما يتعلق بعدم نجاعة الجيش في سنوات 1992-1995 فذلك يعود إلى السبب التالي: يعد الجيش الجزائري جيشا تقليديا يعتمد العقيدة العسكرية الروسية. وتلقى تدريباته وتكوينه المستمر على أساس أن المملكة المغربية هي الخطر الدائم الذي يهدد حدوده. ذلك أن "حرب الرمال" مازالت عالقة في الأذهان حينما اشتبك الجيش الجزائري الفتي سنة 1963 مع القوات الملكية المغربية وخسر كثيرا من جنوده وضباطه، وزاد التوتر حدة بالغلق الشبه الدائم للحدود بين البلدين ودعم الجزائر لجيش "البوليزاريو" وتوفيرها للقواعد والسلاح والتدريبات اللازمة حتى تشن غارات خاطفة على المغرب. لكن الوضع اختلف منذ سنة 1992 كلية. فهذا الجيش التقليدي وجد نفسه يخوض حربا غير تقليدية داخل أرضه وعلى امتداد جباله وأدغاله. وجد نفسه في مواجهة مقاتلين خفيفي التسليح ويتقنون الكر والفر والاختباء في الأدغال والغابات. ويعرفون تمام المعرفة بطبيعة الأرض التي يقاتلون عليها. وهو ما يفسر الخسائر الكبيرة التي حصلت في صفوفه في الفترة 1992-1995، والناتجة عن تردده وبطئ تنفيذ الأوامر بسبب المركزية الشديدة للقيادة في وزارة الدفاع. لكن سرعان ما جرت تغييرات أدت إلى تكيفه التدريجي مع الحرب الجديدة بعدما أعاد تنظيم القيادة العسكرية العاملة في ساحة المعركة فاكتسبت مرونة التحرك. وتشكلت القوات الخاصة من أفرع عديدة من الجيش وبقية الأجهزة الأمنية لتصبح تحت قيادة واحدة يمثلها اللواء محمد العماري[15]. ومنذ سنة 1995 أصبحت الإستراتيجية العامة للجيش الجزائري تعتمد على عنصرين متكاملين. في البداية يقوم بعملية مؤقتة وواسعة يستخدم فيها كل أسلحته الثقيلة، ثم ينسحب من الميدان ويترك مهمة حفظ الأمن اليومي لجماعات جديدة شكلها لهذا الغرض. تسمى "الحرس البلدي" و"قوات الدفاع الذاتي". ومن هنا فصاعدا، ستصبح هذه القوات محددة في الصراع حيث ستقوم بمراقبة كامل البلاد والتضييق على نشاط الإسلاميين المسلحين.

بالنسبة إلى الحرس البلدي، فقد انتقل عددهم من 15 ألف في بداية سنة 1995 إلى حوالي 100 ألف سنة [16]1997. ويتميزون عن القوات النظامية بكونهم أبناء البلد الذي يدافعون عنه، وبالتالي معرفة دقيقة بأرض المعركة وبالسكان وعائلات مقاتلي الجماعات الإسلامية[17]. فنجحوا في منع الجماعات الإسلامية المسلحة من التنظيم على نطاق واسع وحشد قواهم أو استعادة أنفاسهم..والأهم من ذلك راقبوا السكان المحليين ومنعوهم من تقديم أي عون أو دعم لهذه الجماعات. هذه القوات وقع تدريبها ثم تسليحها من قيل الجيش، أما في الميدان فيخضعون لأوامر الدرك الوطني. وتم في شهر أغسطس/آب إصدار قرار رسمي لتحديد مهامهم بدقة.

أما الفئة الثانية من الميليشيا، فتمثلها قوات الدفاع الذاتي. انتقل عددهم بسرعة كبيرة ليصل إلى 100 ألف سنة 1997. وحدد قرار رسمي صدر سنة 1997 كيفية تكوينهم. فالمفوض الأمني هو المسؤول على الترخيص لهم بعد أن يقدم بعض السكان طلبا رسميا ويوافق عليه في حالة ما توافقه الأجهزة الأمنية. ومنذ أبريل/نيسان أصبح لهذه الجماعات قيادة مركزية في وزارة الداخلية[18].

ورغم النجاحات الكبيرة التي حققتها هذه الجماعات الجديدة في محاصرة الإسلام المسلح ومساندة أوساط كثيرة داخل الحكم أو حتى محايدة لهم، فإن كثيرا من ردود الفعل كانت سلبية. فالمعارضة "الديموقراطية" تحدثت عن خطر هذه الجماعات واتهمت السلطة ب"خصخصة الحرب" [19]. ووصل بها الأمر إلى اتهام هذه الجماعات بالقيام بعمليات انتقامية غير قانونية وقتل مدنيين أبرياء بغاية تصفية حسابات شخصية ليست لها أية علاقة بالسياسة، أو قتل عائلات كاملة من أجل الحصول على أرضها[20]. كما تتهم المعارضة النظام بكونه قد تخلى جزئيا عن مهمة الدولة المقدسة والمتمثلة في احتكار العنف المنظم لصالح فئة من الشعب. ومن ثمة لا بد من استقالة حكومة عاجزة عن حماية مواطنيها.

في نهاية المطاف، من الممكن التأكيد على أن الإستراتيجية الجديدة التي انتهجها الجيش منذ 1995 قد أثبتت نجاعة كبيرة وأدت إلى تحقيق انتصارات هامة ضد الإسلام المسلح. فهؤلاء الأخيرين، وبعد هدنة الجيش الإسلامي للإنقاذ والتشتت الكبير الذي حصل في صفوفهم نتيجة الانقسامات والتصفيات الداخلية، أصبحوا يعيشون ظروفا قاسية. وأصبح استقطابهم للشباب المهمش اجتماعيا مسألة شديدة الصعوبة. بل أن كثيرا منهم فروا من الجبال وسلموا أنفسهم إلى السلطات المحلية حتى ينتفعوا بقانون الرحمة الذي سنه الرئيس السابق اليامين زروال، أو يستفيدوا من "قانون الوئام المدني" الذي طرحه الرئيس عبد العزيز بوتفليقة وصادق عليه الشعب بأغلبية ساحقة..أما المقاتلون الأوائل ومن يسمون بالأفغان فإن أكثرهم تم قتله خلال المعارك[21].

أما على المستوى الخارجي، فإن أساليب النظام في مواجهته للإسلام المسلح تم الاحتجاج عليها من قبل المنظمات الدولية المهتمة بحقوق الإنسان. فقد نشرت منظمة "ناقلون بدون حدود" (Reporteurs sans frontières) كتاب الجزائر الأسود سنة [22]1995. ثم نشرت منظمة "اللجنة الجزائرية للمناضلين الأحرار من أجل الكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان" (Le Comité algérien des militants libres de la dignité humaine et des droits de l’homme) سنة 1996 كتابا عنوانه "الكتاب الأبيض حول القمع في الجزائر (1991-1995) (Livre blanc sur la répression en Algérie (1991-1995) [23]. قام مؤلفو هذين الكتابين بإدانة ممارسات الجيش الجزائري في حربه ضد الإسلاميين واتهموه بتعدد التجاوزات.

وتزامنا مع نجاحه العسكري، قام الجيش بغرس بذور الانشقاق والتشتت لدى "الإنقاذ" والجماعة الإسلامية المسلحة وحقق كثيرا من النجاحات.

ب- تفكك "الإنقاذ" والجماعة الإسلامية المسلحة

إلى جانب انتصاراته العسكرية المتصاعدة، حقق النظام الجزائري بقيادة مؤسسته العسكرية نجاحات أخرى تمثلت خاصة في تفكيك المعارضة الإسلامية المسلحة وإضعاف تعاونها ودفعها في كثير من الأحيان إلى التقاتل فيما بينها بعد زرع بذور الشقاق والاختلاف. فقد نجح من جهة بدفع الاختلاف والصراع بين الجيش الإسلامي للإنقاذ والجماعة الإسلامية المسلحة إلى حدوده القصوى ووصل الأمر بمقاتلي "الإنقاذ" إلى التنسيق مع الجيش الجزائري في معاركه ومساعدته ضد الجماعة. وقد توج هذا التعاون بأن أعلن قائد الجيش الإسلامي للإنقاذ هدنة من جانب واحد في أواخر سنة 1997. وفي نفس الوقت، انضمت جماعات أخرى إما لقوات "الإنقاذ" أو إلى الهدنة بشكل منفصل[24] وبعضها سلم نفسه لقوات النظام.

وفي السياق نفسه، اشتدت الخلافات والتناقضات بين قادة "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" في الخارج بين تيار معتدل يدعو إلى التفاوض والحوار مع السلطة ويساند خطوات "الجيش الإسلامي للإنقاذ" في هدنته ويمثله رابح كبير في ألمانيا، وآخر أكثر تصلبا ينادي بواصلة "الجهاد" ويمثله أنور هدام في أمريكا. أما عن الجماهير الغفيرة التي ناصرت "الإنقاذ" في انتخابات 1990 و1991 ، فيبدو أن أغلبها انضم إلى حركة "حمس" بقيادة الشيخ محفوظ نحناح وهو ما يفسر انتقال نتائجها الانتخابية بعد حل "الإنقاذ" بشكل سريع[25]. والأكثر من ذلك، فإن بعض قادة وحتى مؤسسي "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" أعلنوا انسحابهم منها وانضمامهم إلى السلطة الحاكمة. يمكننا إعطاء أمثلة : أحمد مراني، بن عزوز زبدة، سعيد قشي، الهاشمي سحنوني وبشير فقيه. وتمكن النظام الجزائري من دمجهم في أجهزة الدولة بمناصب مختلفة. النتيجة تمثلت في انتهاء الجبهة الإسلامية للإنقاذ كحزب جماهيري كبير ومتماسك، فلم يبق إلا شخصيات مختلفة لا ترتبط فيما بينها بروابط تنظيمية وانضباطية حقيقية..فقد نجح النظام في إعادة سيطرته على كل الفضاءات تقريبا، من الفضاء السياسي، إلى الفضاء الاجتماعي، وحتى الفضاء الديني متمثلا في المساجد..

أما من حيث خلاصتنا النهائية، فيجب التنبيه إلى أن انتصارات المؤسسة العسكرية تبقى نسبية، وأغلبها يتمثل في حمايتها الدولة من السقوط والتفكك لصالح الإسلاميين في مرحلة أولى ثم إضعاف الجبهة الإسلامية للإنقاذ وتنظيماتها العسكرية بتشتيتها وزرع الانقسام فيها في مرحلة ثانية.. أما المرحلة الثالثة والمنتظر منها إنهاء أي عمل مسلح مضاد للدولة واستئصاله كلية، فإن المؤشرات الحالية لا تبشر بمثل هذا النصر القريب.



[1] - Lahouari Addi, “Dynamique infernale en Algérie”, Le Monde Diplomatique, octobre 1995.

[2] - Ibidem.

[3] - Ibidem.

[4] - خطاب الرئيس اليامين زروال في الفاتح من نوفمبر 1994 بمناسبة الاحتفال بعيد الثورة، أنظر :

Lahouari Addi, “Dynamique infernale en Algérie”, op, cit.

[5] - Lahouari Addi, op, cit.

[6] - Ibidem.

[7] - Ibidem.

[8] - Ibidem.

[9] - Ibidem.

[10] - Yves Lacoste, “Les causes spécifiques du drame algérien ou le slogan de la guerre d’indépendance incomplète”, Hérodote, n. 77, p.7.

[11] - غياب هذه الجبال والأدغال في كل من مصر وتونس يفسر الهزيمة الكبيرة والسريعة للحركة الإسلامية عندهما. فقد كانت المعركة تدور في المدينة مما سهل على قوات الشرطة والمخابرات منفردة القضاء على هذه الحركات دون الحاجة حتى لتدخل الجيش.

[12] - Nedjalka Markov, Action collective et mobilisation. De l’analyse historique aux modèles sociologiques: Le chemin de Charles Tilly, Faculté de sciences économiques et sociales, Genève 1986, collection Etudes et Recherches, n.20, p.31.

[13] - Bruno Callies de Salies, “Les luttes de clans exacerbent la guerre civile”, Le Monde Diplomatique, octobre 1997.

[14] - Saïd Boularès, “La grande Muette livre ses secrets”, Les Cahiers de l’Orient, troisième et quatrième trimestre, 1995, no.39/40, p.192.

[15] - Bruno Callies de Salies, “Les luttes de clans exacerbent la guerre civile”, op, cit.

[16] - Ibidem.

[17] - Ibidem.

[18] - Ibidem.

[19] - أنظر مثال زعيمة حزب العمال لويزة حنون.

[20] - أنظر التصريحات الإعلامية الكثيرة للويزة حنون. ورغم أن الحكومة كانت دائما ترد وتقول أنها سلحت الشعب من أجل حماية نفسه ولأنها تثق فيه وتعتبر أن معركتهما واحدة..فإنها اعترفت منذ أواخر عهد زروال بحصول كثير من التجاوزات القانونية ضد المدنيين من قبل بعض هذه الجماعات وأعلنت عن اعتقالهم ومحاكمتهم.

[21] - Bruno Callies de Salies, “Les luttes de clans exacerbent la guerre civile”, op, cit.

[22] - Reporters sans frontières, Le livre noir de l’Algérie, Paris, 1995.

[23] - Le Comité algérien des militants libres de la dignité humaine et des droits de l’homme, Livre blanc sur la répression en Algérie (1991-1995), Hoggar, Plan-les-Ouattes, Suisse, 1996.

[24] - “Deux émirs rallient l’AIS”, El-watan, Alger, no. 28/4/1998.

[25] - أنظر استنتاجي في دراستي: رياض الصيداوي، "الانتخابات والديموقراطية والعنف في الجزائر"، المستقبل العربي، بيروت، عدد 245، يوليو/تموز 1999.