الأربعاء، 28 يناير 2009

ما الذي يمنع الديموقراطية في الوطن العربي؟ في سوسيولوجيا الأسباب العميقة ثقافة ومجتمعا واقتصادا

رياض الصيداوي

تدعوني جامعة جنيف (تحديدا الأستاذين جان زجلر وجان إريك لانيه) سنويا لإلقاء محاضرات عن العالم العربي، عن إيديولوجياته المعاصرة، وعن الحركات الإسلامية، خطابا وسلوكا وعن حال الديموقراطية العربية. وكنت دائما انتهج مع الطلبة السويسريين وبعضهم القليل أوروبي أو حتى من العالم الثالث أسلوب تشريكهم في عملية التفكير حتى تصبح عملية جماعية وليست عملية فردية تنحصر في "عالم" يخطب أمام "جهلة"! كما هو الحال في أغلب الجامعات العربية! وأطرف سؤال كنت أطرحه عليهم هو ما الذي يمنع الديموقراطية في الوطن العربي؟ وكانت إجابتهم متعددة لكنها تتلخص في عوائق ثلاثة تقريبا: وهي غياب مجتمع مدني أو ضعفه، التخلف الاقتصادي، ثم الدين. وحقيقة أشهد أن لا أحد قال الإسلام ولكن اُستخدم فقط تعبير الدين وذلك باستذكار التجربة المريرة التي عاشتها الديموقراطية الغربية مع الكنيسة. كنت آخذ هذه الإجابات الثلاثة على محمل الجد وأحاول أن أعيد صياغتها باستخدام مفاهيم ونظريات العلوم السياسية. ثم اقسم المحاضرة إلى مجموعة أسباب: هي الأسباب الثقافية، أي ضعف الثقافة السياسية. ولا استخدم هنا هذا المفهوم بمعناه الأنتروبولوجي الواسع ولكن فقط بمعناه السياسي المحدود. ثم الأسباب الاقتصادية وأهمها عامل الضرائب الذي يعد المدخل المباشر والأساسي في عملية المشاركة السياسية. وكذلك طبيعة الدولة العربية الريعية غير الإنتاجية والمعتمدة على القطاع العام. وأيضا الأسباب الخارجية وأهما عدم تحمس القوى النافذة في الغرب لعملية دمقرطة كاملة في الوطن العربي.

أنبه منذ البداية إلى أن هذا المقال سوسيولوجي لذلك لن يعترف بالمقاربة الدستورانية القانونية. فهو سيتجاهلها ويعتبر أن أغلب الدساتير العربية، خاصة الجمهورية منها شديدة الديموقراطية وعادة ما تتشبه بالدستور الفرنسي أو السويسري، لكنه لا يكترث بمضمونها. يجب أن يعترف علماء القانون العام العرب بلاإجرائية مقارباتهم الدستورانية النصية وعليهم أن يتركوا المهمة لعلماء السياسة والاجتماع الذين لن يرو في هذه الدساتير سوى حجم التناقض المرعب بين الخطاب والممارسة في حياتنا السياسية.

عوائق الديموقراطية

لماذا لا تحل الديموقراطية في الوطن العربي مثل غيره من البلدان التى انتمت حديثا إلى هذه التجربة ونجحت فيها خصوصا في أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية حيث يعد أغلب بلدان هذه الأخيرة أقل نموا وتقدما من المجتمعات العربية؟ بل حتى السنغال البلد الإفريقي المسلم المتخلف اقتصاديا نجح في عملية الدمقرطة بشكل كامل.
الإجابة الأولى الشائعة، لكن دون أن تكون علمية، تعتمد مقولة حاكم قوي مستبد وشعب مغلوب على أمره. هذه المقولة صحيحة، لكنها تصف ولاتحلل، تحمل المسؤولية لطرف ولكنها لا تبحث في آلية الاستبداد، في أسبابها العميقة البنيوية الموضوعية المستقلة عن إرادة الأفراد. لا أحاول في هذا المقال أن أقدم إجابة لإشكالية حضارية يلزمها الكثير من البحث الجماعي المؤسساتي المختص. ولكني أحوصل بعض الأفكار آلتى يمكن أن تكون مجموعة فرضيات قابلة للتعميق، للبحث وللحفر المعرفي.
كيف يمكنني أن أبرئ الأنظمة السياسية العربية من كونها غير مسؤولة كلية عن الاستبداد لأنه مستقل عنها. أقدم الرأي التالي: يخترق الوطن العربي أنظمة شديدة التنوع والاختلاف الأيديولوجي والعقائدي، حيث نجد فيها الملكي والجمهوري والجماهيري، كذلك نرصد الاشتراكي، الوحدوي أو الرأسمالي، الإقليمى، أو الديني وشبه اللائيكي... يوجد اختلاف عميق. لكن في المقابل تتفق هذه الأنظمة جميعا على تجاهل الديموقراطية وانتهاج التسلط الدائم والمنظم. وهي تتميز، وهذا الأهم سوسيولوجيا، بأن القيادة السياسية العليا لا تتداول ألا من خلال القوة والعنف الثوري أو الانقلابي. الاستثناء الوحيد ينحصر في لبنان والجزائر حيث يتغير رئيس الدولة باستمرار لأسباب موضوعية تبشر بإمكانية التقدم الإيجابى. هذا التنوع الشديد الذي يقابله اتفاق كامل على اختيار النهج التسلطي يجعل من غياب الديموقراطية قضية موضوعية بنيوية وليست مجرد حكم قيمي يمس الأشخاص حتى وأن كانوا حكاما. ليس الحكام هم السبب الحقيقي في منع الديموقراطية وإنما المجتمع وتحديدا ثقافته السياسية هما المسؤولان. أعطي مثالا أوضح به معنى الثقافة السياسية. قائد الجيش الفرنسي يعطي أوامره لمساعديه بأن يعتقلوا رئيس الدولة جاك شيراك وتحتل قواتهم مباني الإذاعة والتلفزيون ويذيعون البيان الأول. فما الذى سيحدث؟ قطعا، سيعتقد الضباط بأن قائدهم اختلت مداركه العقلية وسيوقفونه عن العمل رغم كونه قائدهم المباشر. أن تصرفهم هذا يعكس الثقافة السياسية لكل فئات الشعب الفرنسي. مثال آخر، الرئيس جاك شيراك يطلب من أعوانه المخلصين أن يكون رئيسا لفرنسا مدى الحياة. لن يستمع إليه أحد. وسينحى عن السلطة قبل أن يبدأ في اتصالاته لتنفيذ مؤامرته. ما الذى يمنعه؟ الثقافة السياسية آلتى ترى في الديموقراطية ومبدأ التداول على السلطة ركيزة مقدسة للمجتمع والدولة.

عدم الحماس للمشروع الديموقراطي العربي

في الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط أرصد ما يلي: لم تنزل مظاهرة شعبية ولا حتى نخبوية واحدة تطالب بالديموقراطية. الشارع العربي تحركه فلسطين، الوحدة العربية في الستينات، العراق اليوم، مظاهرات الخبز آلتى استمات في الدفاع عن حقه في ضرورة مواصلة دعم الدولة للسلع التموين الأساسية: مصر 1977، تونس 1984، المغرب 1984، الجزائر 1988، الأردن 1997...لكن هذا الشارع نفسه الذى أثبت عديد المرات جرأته وأقدامه وعدم خوفه من الردع الأمني وتحديه السافر لنظام بلاده لم يتظاهر من أجل الديموقراطية وضرورة تنفيذها فورا. لا يوجد أذن وعي سياسي يدرك أن الديموقراطية كانت ومازالت وستظل مطلبا جذريا مشروعا. النخبة السياسية العربية ومفكريها لم تهتم بمسألة الديموقراطية بقدر ما اهتمت بضرورة الثورة.

ويتوضح ضعف الحماس للديموقراطية أيضا في الخطاب السياسي الأيديولوجي العربي. إن تحليل الخطاب السياسي العربي يحيلنا إلى مستوى الأفكار ويبعدنا عن الممارسة. لو رصدنا هذا الخطاب في القرن التاسع عشر لوجدناه يطمح بشدة الى تحول مجتمعاته نحو الديموقراطية. كان رفاعة رافع الطهطاوي، عبد الرحمان الكواكبي، خير الدين التونسي وأحمد بن أبي الضياف وآخرون غيرهم ممن عاصروهم في عصر النهضة يبحثون عن الحل للنهوض بالشرق المستبد، وبمجرد ما التقوا بالغرب، أو أوروبا أو فرنسا تحديدا تفطنوا إلى سر التقدم في عالم الآخر. وتأكدوا من حجم التخلف المفزع الذى تعيشه البلاد العربية. لكن المشكل أن هذا الاخر المتقدم الديموقراطي استعمر أراضيهم وتحكم في شعوبهم مما أحدث أزمة ثقة فيه وما عاد يمثل نموذجا يمكن تقليده. انتقل الخطاب السياسي العربي من مفهوم الإصلاح/النهضة إلى الثورة والانقلاب في القرن العشرين. كانت النخبة معادية بشكل عام للغرب الاستعماري الذى أصبح إمبرياليا. وكانت متلهفة إلى تحديث شامل لمجتمعاتها في زمن قياسي، فاختارت أسلوب الثورة أو الانقلاب على حد تعبير الأدبيات البعثية من أجل أحداث تحول جذري. مميزات هذا الخطاب أنه معاد بشكل عام للغرب ومن ثمة فهو يحتقر آلياته ومؤسساته ومناهج حكمه. يمكن تصنيف هذا الخطاب إلى ثلاثة اتجاهات رئيسية : القومي العربي بتفرعاته الناصرية، البعثية بشقيها السوري والعراقي. الخطاب الماركسي العربي بمدارسه المختلفة (ماوي، تروتسكي، نهج سوفياتي، وحتى الباني!..). الخطابي الديني السياسي (من أخوان مسلمون، حزب تحرير إسلامى، الجماعات الإسلامية...إلى الإسلام الجديد بالمغرب العربي). تلتقي هذه الخطابات في نقطتين حاسمتين. أولا: معاداتها للغرب، فهي لا يمكنها استعارة آلياته، لأنه عدو وليس نموذجا للتقليد. وتستنفر لأجل ذلك الروح الوطنية السائدة المتبنية أصلا لهذا الخطاب. ثانيا: النفي والاقصاء المتبادل فيما بينها على المستوى الثلاثي أي اتجاهات عامة، وفي داخل كل اسرة فكرية.

المشروع الديموقراطي لدى القوميين

القوميون العرب يرون في الماركسين، سياسيا: عملاءا لموسكو الشيوعية، فكريا: موردي أفكارا أجنبية لاتنسجم مع حقيقة مجتمعاتهم ثم هم في نهاية المطاف أقليميين متحمسين لمثالية أممية وهمية على حساب قضايا أمتهم. في الممارسة عانى الشيوعيين من الاضطهاد البعثي والناصري على حد سواء. نفس الأحكام والعداوة مارستها القومية العربية ضد الإسلام السياسي. فهو رجعي، عميل لأكثر الدول العربية تخلفا وتقليدية ويخدم مصالح الغرب الإمبريالى بوعي منه أو بدون وعي. كما يعرقل عمليات التحديث الحاصلة متعلقا بأوهام الماضي البعيدة. واضطهد هذا التيار سياسيا: اعتقالات، ومحاكمات وأعدامات فردية أو جماعية. لم يفكر الخطاب القومي في تشريك خصومه في مشروعه الإستراتيجى الضخم وكأن الوحدة العربية لا تعني أحدا غيره.

دكتاتورية الماركسيين

مارست الماركسية العربية أصولية وتطرفا خاصين بها. فسرت فكريا المجتمعات العربية وتطورها بلغة لا تتحدث ألا عن "التحليل العلمي"، بينما كانت في الواقع تعديا منهجيا سافرا على المجتمعات العربية. تحدثت طويلا عن طبقة بروليتارية عربية ثورية كطليعة في التغيير الثوري الذى لم يتم، لأن هذه الطبقة وهم لم يوجد ألا في مخيلة الألنتلجنسيا الماركسية ذات الأصول البرجوازية! حقيقة، لا توجد طبقة عمالية في الوطن العربي، بل هناك عمال. فمفهوم الطبقة يستدعي الوعي بالانتماء. أما مفهموم العامل، فهو تقسيم مهني اجتماعي. لأذكر أن العمال العرب فتنهم الخطاب القومي العربي أو الديني الإسلامى أكثر من أي خطاب طبقي، أو هم في بعض الأحيان يعملون لصالح أجهزة أمن بلدانهم ضد حركات الأنتلنجنسيا الثائرة: مثال الحركات الطلابية، أو هم ثائرون ضد الترفيع في أسعارالسلع التموينية الأساسية، وهم في نهاية المطاف تقليديون وشديدو الارتباط بالأفكار التقليدية ومتدينون مخلصون.
فكريا: يعد الخطاب الماركسي غزير الانتاج. لكنه منبت، مغترب، يعيش على أوهام حركات اجتماعية لم توجد عمليا. ويعامل الآخرين بنوع من التعالي، اعتقادا في علميته، ويواجههم بمجموعة من الأحكام القيمية الجاهزة. فالقومية العربية فكر عنصري، شوفيني، برجوازي، قد يشبه بالنازية والفاشية. أما الحركات الإسلامية فهي رجعية، ضلامية، قروسطية مشتركة في مؤامرة إمبريالية أمريكية...في نهاية المطاف، تهدف الماركسية من خلال دولة دكتاتورية البروليتاريا نظريا، أو دكتاتورية الأنتلجنسيا إجرائيا، إلى التخلص من الطبقات من خلال العنف الثوري. ويعني ذلك التخلص من كل معارضة قومية أو إسلامية. لا يوجد تفكير في ضرورة تشريك الآخر، في ضرورة التداول على السلطة...في الديموقراطية و التعددية السياسية.

تكفيرية الخطاب الديني

صحيح، أن الحركات الإسلامية في الوطن العربي تعرضت لأكثر أنواع الاضطهاد السياسي كما ونوعا. لكنها في المقابل تتميز بأكثر الخطابات نفيا للآخر، وأكثرها عنفا في رفضه، واستعدادا في القضاء عليه بتهم لاتاريخية من نوع الردة والكفر. فالحاكمية لله و ليس للبشر. ومن ثمة يصبح الإقصاء نسقيا. هذا الخطاب، في شقه الأكثر أرثوذكسية، يتميز بلاتاريخيته، بقطيعة كاملة مع المرحلة العقلانية المعتزلية، الرشدية...هو امتداد لتحالف نظام الملك السلجوقي مع مدرسة الغزالي الفقهية، امتداد لابن تيمية: ارتبط بعصر الانحطاط، المتميز بالانكماش، والخوف من فكر الآخر. الخوف من العقل لأنه يهدد النقل. اليوم، يمارس إقصائية مرعبة فكريا وحتى عمليا حينما تتاح له فرصة السيطرة على فضاءات محدودة كالجامعات والمبيتات الطلابية مثلا. أخطر ما في هذا الإقصاء هو الاختزال والتكفير واستغلال لأرض خصبة مواتية شعبيا لأسباب متعددة، من أجل مواجهة الآخر. فالقومي: شيوعي متخف، والشيوعي كافر ملحد. والليبيرالي عميل للغرب خائن لمجتمعه وتقاليده وعاداته... لا ينظر إلى المضامين الاجتماعية والوطنية الإيجابية في هذه الأفكار. هناك اختزال وتسطيح نسقي يؤديا إلى رفض الآخر واتهامه بأبشع التهم. والديموقراطية وسيلة وليست غاية. نجد ذلك في خطاباتهم وممارساتهم. ويتعقد الوضع ببروز مرجعيات دينية منغلقة وتسليم العقل إلى شيوخ يفكرون نيابة عنا. ويبرز الشيخ المفتي كنموذج صارخ في احتكار عملية إصدارالقانون من قبل فرد وتجاوز بقية المواطنين الآخرين. فالفتوى لأنها لا تصدر عن مؤسسات منتخبة مثل البرلمان فهي عملية تسلط فردي على الآخرين. فمن أعطى لهذا الفرد الحق في إصدار الفتاوي ، من رشحه، من انتخبه لمثل هذه المهمة؟؟؟

غياب الليبيراليين

الخطاب الليبيرالي العربي سقط أيضا في فخ الإقصاء والتحقير للآخر. فالقومي عنده أصبح قومجي، والإسلامي ظلامي والماركسي دكتاتوري توتاليتاري. هذا الخطاب لم يستطع أن يبلور نفسه ويقدم أطروحة واضحة بمعزل عن نفيه للآخر وإقصائه. كان الأولى بهذا الخطاب أن يردد مع مونتسكو قولته "إنني اختلف معك في الرأي ولكني أقاتل حتى الموت من أجل أن يكون لك الحق في إبداء رأيك". عوض أن يتصدى الخطاب الليبيرالي العربي لمهمة نشر الديموقراطية والدعوة لعقد اجتماعي يحترم فيه الجميع بادر بالتحقير ونفي الآخر دون أن يقدم له بديلا واضحا لأنه أراد نقل تجربة غربية دون نقدها، تمحيصها وغربلتها. لم يهتم بواقعة تاريخية تفيد بأن الأنظمة الغربية الليبيرالية مارست الديموقراطية في بلدانها ولكنها مارست استعمارا بشعا في الآراضي العربية. قتلت فرنسا أكثر من مليون ونصف جزائري أثناء احتلالها . كما ساندت هذه الدول الأنظمة الاستبدادية العربية. ولم يتخلص الخطاب الليبرالي العريي من تبعيته المفرطة للتجارب الأم. لم يستطع نقدها وتجاوزها والبحث عن عملية توفيق بين التربة العربية الإسلامية وبين التجربة الغربية التاريخية. اكتفى بتحقير شرائح واسعة من المجتمع... لذلك من الممكن التأكيد بعدم بروز كثيف لحركات ليبرالية ديموقراطية في الوطن العربي؟ وعلى المستوى الاقتصادي، نرصد وجود رأسمالية هجينة، بشعة، قمعية، لا ترى في الليبيرالية إلا وجهها الاقتصادي، فتستلمه وتشوهه. لا توجد رأسمالية عربية تنافسية تحترم السوق وقوانينه. هناك مافيا، وفساد في علاقة القطاع العام بالقطاع الخاص. فالثاني يرشي الأول ويفسده من أجل الخروج من قوانين السوق نحو الزبونية، الاحتكار، التحكم في السوق بمنطق غير رأسمالي. عمليا هذه الرأسمالية تمارس السلطة اليوم. ولا تعتمد إلا على أجهزة الردع أو القمع المتطورة. تعادي الديموقراطية وكل من يهدد مصالحها الاحتكارية وليست الرأسمالية.

من سيناضل من أجل الديموقراطية إذن؟

من سيحمل قضية الديموقراطية في الوطن العربي إذن؟ كيف ستدمقرط مجتمعاتنا دون وجود هذه القوة، هذا الخطاب المؤمن شديد الإيمان بأن الآخر اختلف معه في كل برامجي ولكني اتفق معه في حقه أن يكون له مكانا تحت الشمس، في الوجود، في التعبير، في نسبيتنا جميعا. أو ليست النسبية أهم قوانين الاكتشاف العلمي الحديث؟. بكل تأكيد الحقيقة المطلقة وهم. والاختلاف لا يعرقل ولكنه يثري بشرط أن يتم من خلال قنوات سلمية، من خلال عقد اجتماعي. من خلال إيمان عنيد، راسخ وقوي، بأن السلطة يجب أن تتداول، لا تورث، لا تنتزع بالقوة ولا حتى بالثورة، وإنما فقط من خلال صناديق الانتخاب. كل القوى السياسية العربية تحمل في ذواتها مشروعا توتاليتاريا، كليانيا، تصورا أحاديا لا يعترف بالغير.

الباطنية السياسية أو التقية!

عائق آخر واجه الديموقراطية في الوطن العربي، يسمى في العلوم السياسية "السلوك السياسي". فبماذا يتصف السلوك السياسي العربي؟ باطنية أو تقية: يلخصه من قال : قلبي مع علي وسيفي مع معاوية. بمعنى مصلحتي اليومية مالية وأمنية في الانسجام مع نظام الحكم، في التهليل له نهارا، في تأييده علنا... لكن ليلا أمام التلفزيون، مع الزوجة والأولاد، أنقد النظام وأتجرأ عليه وأريح ضميري وأنسجم مع مبادئي وقناعاتي. هذا السلوك طغى على السلوك السياسي في الإسلام: استنبطه الشيعة تفاديا لاضطهادهم من قبل السنة، لكنه أصبح سلوك الجميع: سنة وشيعة وخوارج. الخوف، التقية: أضهار عكس ما يضمره القلب. لإنجاز ديموقراطية، لا بد من التخلي عن إرث قرون طويلة من الزمن: إرث سيكولوجي، اجتماعي. دخل هجينا ثم تقنن وأصبح مؤسسا صامدا: لا بد من خلخلته.
مشكلة الديموقراطية لا تنحصر في تسلط الدولة فقط. أنها تبدأ مع الأسرة، أسلوب معاملة الطفل، بناء شخصيته تتم من خلال العنف والقمع. في المدرسة يتواصل نفس الأسلوب، ليصبح ذلك الطفل ذات يوم شرطيا عقيدته العنف والقمع هما ركائز النظام. كما كان الحال في الأسرة وفي المدرسة يستمر في المجتمع. دائرة عبثية مغلقة: العنف فيها يولد العنف.

العامل الاقتصادي

الدولة الريعية، نسبة إلى النفط، كما الدولة الأبوية التى اعتبرت نفسها مسؤولة على "الشعب القاصر"، على تطوره، تغذيته، تعليمه...اعتقدت في وهم تفوقها على المجتمع. منفصلة عنه : كأنها جاءت من كون آخر، تعتقد أنها تقدم هبات إلى الشعب، أنها تساعده، تمنحه. نسيت أن دورها ينحصر في التنظيم وأنها في النهاية ممولة من هذا الشعب. المواطن ينفق على الدولة وليس العكس. هو سيدها وهي خادمته. النفط العربي أعاق الديموقراطية، لأنه ريعي، تملكه الأسرة الحاكمة بمعنى ملكي أو حتى "جمهوري"، تتحكم في توزيعه وتمارس الكرم على المخلصين من الرعية. فتخلق علاقات زبونية تعتمد على الولاء وليس على العقد. الولاء مطلقا يخضع الى ثنائية الطاعة أو الردع، أما العقد فهو اختياري متجدد مبني على الرضى التام وقابل للإلغاء والتجديد. الدولة العربية مستقلة عن المجتمع، نادرا ما كانت مصادر تمويلها الضرائب. فقد استولت على الثروات الباطنية لتبيعها خاما حتى تمول نفسها. وقامت، بنفسها، بإنشاء مشاريعها الصناعية وحتى الفلاحية والخدماتية لتحافظ على استقلاليتها وتفوقها على المجتمع وسيطرتها عليه. لماذا تحافظ الدولة العربية "الرأسمالية" على القطاع العام وتتشبث به: لمراقبة المجتمع والسيطرة عليه لأنها لا تثق في دافعي الضرائب. المواطن، دافع الضرائب، يمكنه مراقبة دولته ومحاسبتها ومساءلتها عن مصير ما يدفعه من ضرائب.

العائق الخارجي

تعيق "الدول الديموقراطية" الديموقراطية حينما يتعلق الأمر بتحقيقها في الوطن العربي. تنسجم في ذلك مع مصالحها الاقتصادية والإستراتيجية. اقتصاديا، تجد نفسها أكثر قوة وأقدر مناورة على إبرام اتفاقيات لصالحها. لأن المفاوض المقابل يعيش الخوف من إمكانية ازاحته شعبيا أو انقلابيا، فيطلب مساعدة "الدول الكبرى" حتى يستمر. تساعده لأنه يدفع ثمنا اقتصاديا باهضا مقابل الحماية السياسية، العسكرية والأمنية آلتى توفرها له. مفاوض يمثل دولة ديموقراطية، تنتخب حكومتها انتخابا حرا مباشرا يصبح أكثر قوة في حماية مصالح بلاده. تستغل الديموقراطيات الغربية هذه الثغرة أحسن استغلال لفائدتها. ولأن علاقتها التاريخية مع بلدان الوطن العربي هي علاقة صراع ومقاومة، فأنها تدرك أن ديموقراطية نزيهة في هذا الوطن ستصعد حكومات مقاومة لاستغلالها، متصدية لنفوذها... هنا يكمن خطر الديموقراطية العربية على المصالح الغربية. لهذا تحبذ استمرار حالة البؤس السياسي، السلوك الباطني، الخلل الفاضح بين الخطاب والممارسة. لكن تبقى في الغرب قوى هامة يمكنها ان تساعد على تحقيق الديموقراطية في الوطن العربي. توجد قوى حية مخلصة في منظمات حقوق الإنسان، في الجامعات ولدى الأنتلجنسيا الغربية تقبل وتساعد على دمقرطة المجتمعات العربية وتقبل بجار قوي موحد ديموقراطي يؤدي دوره الحضاري إيجابيا.
أختم، لأقول بضرورة إعادة ترتيب الأولويات. الديموقراطية أولا: وحتى لا تصبح مفهوما غامضا أفصلها أكثر: تعددية حزبية، اعتراف كل واحد بالآخر وتعايش سلمي معه. التداول على السلطة، لا يمكن لأي حاكم عربي أن يتجاوز عددا معينا من السنوات حتى ولو كان معبود الجماهير. الخطاب السياسي العربي مطالب بتجديد نفسه، من التخلص من أخطائه، من الاستفادة من التاريخ...بالإيمان المخلص بالديموقراطية كقضية حياة أو موت. وهو مطالب أيضا بتحطيم الأساطير وتأليه الشيوخ أو مظري الأيديولوجيا أو مصدري الفتاوي. عليه بامتلاك ملكة النقد الداخلي والتشبع بروحه والقدرة على التجاوز الإبستومولوجي وبناء الجديد وتطويره دائما دون توقف..

نحو فهم سوسيولوجي للحركات الإسلامية في الوطن العربي وقدرتها على التعبئة

رياض الصيداوي

ثمة تربة خصبة جدا تساعد الحركات الدينية على الانتشار في الوطن العربي. وهي نفس التربة التي تعرقل الحركات العلمانية، الليبيرالية، الاشتراكية، الماركسية أو القومية، إجمالا الحركات التي يمكن أن نطلق عليها صفة العقلانية البشرية.

واعتقد أن أولها يكمن في أن الشارع الشعبي العربي العريض ما زال يحصر مفهوم العالم في رجل الدين أو علماء الطبيعة والطب والهندسة. فعالم الاجتماع أو عالم السياسة أو المؤرخ غير معترف بهم كـ علماء أمام طغيان مفهوم العالم في الدين. هناك قطيعة بين العلوم الانسانية والشارع، فهي نخبوية فلسفية محاصرة من الحكومات أولاً ومن الجماهير ثانياً. فالحكومات تري في علوم انسانية جريئة صادقة لا تعرف محرمات خطراً عليها لأنها ستعرضها بالتأكيد للنقد. ورجال الدين يحشدون الشارع ليتهموا هذه العلوم بكونها معقلاً لـ الإلحاد تارة، أو لضرب قيم المجتمع المحافظ في سبيل التغريب تارة أخرى. وهي حقيقة مستعصية نسبياً على الحركات الدينية، لأنها تمتلك بطبعها آليات ابستمولوجية تعتمد علي الشك والتساؤل والحيرة والاستعداد للتراجع وإعادة التفكير في المواضيع ونتائج البحث. ونلاحظ كثيراً أن الإسلاميين خريجي هذه العلوم يتميزون بالليبرالية والاعتدال علي عكس زملائهم الاسلاميين في العلوم الصحيحة الذين لا يؤمنون إلا بمنطق الإطلاق والقوانين النهائية وأن الحقيقة واحدة لا جدال فيها، في حين أن الحقيقة الاجتماعية متنوعة ومتناقضة لذلك نجدها ثرية وجذابة لعلماء الاجتماع ومنفرة للتقنيين والدينيين المتزمتين.

بين العوامل المادية والعوامل الثقافية

يستخدم عالم الاجتماع التونسي الدكتور عبد الباقي الهرماسي تعبير الاحتجاج الديني ليصف ظاهرة انتشار الحركات الاسلامية في الوطن العربي. ومقاربته المتأثرة بالفكر الغربي عادة تعتمد مقولة العوامل المادية في بروز الحركات السياسية. الفكرة في أصلها ماركسية لكنها أصبحت مستخدمة كثيراً في العلوم السياسية الأمريكية. أحاول في هذا المقال ان أبين مدى صحة مثل هذا التحليل ومدي حدوده، وهل للعامل الثقافي دور في انتشار دعوة سياسية :

الطبقة المتوسطة كدائرة أساسية في التعبئة

تشتمل الطبقة المتوسطة في كل المجتمعات علي فئات اجتماعية - مهنية متعددة ومتنوعة. نجد الموظفين الذين يرتبطون عادة بأجهزة دولهم من خلال الرواتب التي تدفع إليهم شهرياً. وهم عادة عاجزون عن معارضة شديدة لحكوماتهم في الدول غير الديمقراطية لأن أي معارضة جادة من جانبهم ستؤدي بهم إلى البطالة بعد الطرد من الوظيفة. ومن ثمة يجدون أنفسهم مضطرين إلى البقاء أوفياء للحكومة وعدم معارضتها علناً نظراً لمصالحهم الاقتصادية المالية. فقط المستقلون مالياً يستطيعون مواجهة السلطة بعنف. هذه الفئة تتجسد عادة في صغار التجار ومتوسطيهم. لقد مثلوا مصدراً تمويلياً هاماً لكثير من الحركات الإسلامية العربية. وأفضل مثال على ذلك هم الإخوان المسلمون. ويجب التذكير بالدور الفاعل الذي لعبه التجار في إيران من أجل إنجاح الثورة الاسلامية في كانون الأول (ديسمبر) 1979. ومن الممكن تفسير ظاهرة دعم التجار الصغار والمتوسطين في هذه الحركات كالتالي:
يمول التجار الصغار الحركات الإسلامية لأنها تناضل ضد تحالف كبار القادة السياسيين والعسكريين والأمنيين مع كبار التجار الذين يمتلكون احتكار التصدير والتوريد من الخارج. ومن ثمة فهم يدافعون عن مصالحهم الاقتصادية بانضمامهم إلى هذه الحركات.
ومن الواضح وجود معاناة دائمة لصغار التجار ومتوسطيهم بسبب الاحتكار الذي تمارسه فئة كبار الموردين الذين يتعاونون بدورهم مع كبار الضباط العسكريين والأمنيين والشخصيات السياسية النافذة. والأكثر من ذلك فإن هذا الاحتكار يمكنه تثبيت أسعار السلع التي يبيعها للصغار والمتوسطين (طبعاً ككل الفئات المتوسطة في جميع المجتمعات نجدها في تردد بين الانضمام الي طبقة المستغلين أو الذين يقع عليهم الاستغلال. وعادة تنقسم علي نفسها في مثل هذه الحالات) فيحدد من هامش ربحهم، وهو يهيمن على السوق بشكل واسع ويمنع الصغار من مضاعفة أنشطتهم وأرباحهم وتراكم رؤوس أموالهم ومن ثمة ارتقائهم إلى صفوة كبار التجار والتسلق طبقياً. وهذا يفسر الدعم الهائل الذي لقيته هذه الحركات من قبل هذه الفئة كما يفسر امكانياتها المادية الهائلة التي وظفت في حملاتها السياسية والانتخابية في حالة ما توفر لها إمكانية النشاط السياسي. كل ذلك نتيجة للاستقلال الاقتصادي لهذه الفئة عن الدولة وعدم ارتباطهما في علاقات مصالح مشتركة.

التراجع في حال وجود ضربات أمنية قوية

لكن، الملاحظ أن هذا الدعم الهائل لن يستمر بالكثافة التي شهدتها البدايات الأولى. فعندما تضرب الأجهزة الأمنية بشدة أنشطة صغار ومتوسطي التجار فإن كثيرا منهم ينقلب على الحركات الإسلامية ويتخلى عنها بسبب مصالحه المالية المباشرة. هذه الفئة الاجتماعية بطبيعتها التاريخية تتجنب العنف وتفكر دائماً بمنطق الربح والخسارة. وحينما بدا لها أن رهان الحركات الإسلامية في الوصول إلى السلطة أصبح رهاناً خاسراً وأن الدولة العربية لم تسقط وإنما علي العكس ازدادت قوة، انقلبت على مواقفها السابقة وناشدت السلامة. بقي أن فئة أخرى، هي فئة المهمشين، لم تعش التجربة نفسها حيث غذت الإسلام المسلح بكل قواها وطاقاتها.

المعدمون المهمشون

يعرف فيلفرادو باريتو المهمشين علي أساس أنها طبقات دنيا مستعدة لاستخدام مكثف للعنف، ويبرز في فقرته رقم 2057 من بيان علم الاجتماع العام أن الثورات تحدث نتيجة إما بسبب إبطاء في عملية دوران النخب، أو بسبب آخر، حينما تتراكم عناصر ذات صفة دنيا في الطبقات العليا، هذه العناصر التي لا تمتلك مواقع داخل السلطة، تتجنب استخدام العنف، أما في الطبقات الدنيا فتنمو فيها عناصر ذات صفات عليا تمتلك القدرة أو الإمكانية للحكم وهي مستعدة لاستخدام العنف . يسمي باشلار هذه العناصر بـ "الرعاع" ويعرفها بكونها المجموعة التي تضم كل المطرودين من النظام الاجتماعي. ويعتقد الباحث الفرنسي ايف لاكوست أن كثيراً من المراقبين يفسرون ظهور الحركات الإسلامية وانتشارها السريع بسبب تفاقم البطالة ، ذلك أن البطالة وصلت إلى شريحة كبيرة جداً من السكان وأغلبهم من الشباب. وهؤلاء الأخيرين، نظراً لتهميشهم من قبل المجتمع سيشكلون الاحتياط الأكبر الذي يزود الجناح الأكثر تطرفاً للحركات الاسلامية التي استخدمت السلاح.

وكمثال، يحلل في نفس السياق عالم الاجتماع الفرنسي جاك فونتان في مقاله "أحياء فقيرة والتصويت الاسلامي في الجزائر" ظاهرة تفشي الفقر وانتشار الحركات الاسلامية في المدن الجزائرية. فيجد علاقة سببية بين الفقر والاقتراع لصالح الجبهة الاسلامية للانقاذ. ويستنتج أنه خلال انتخابات حزيران (يونيو) 1990، كان التصويت لصالح الاسلاميين أكثر أهمية في المدن منه في الريف. وتكرر نفس الشيء في انتخابات 1991 أثناء الانتخابات التشريعية في كانون الأول (ديسمبر) 1991. ففي الجزائر العاصمة اكتشف أن الجبهة الاسلامية للانقاذ تحصلت علي أعلى معدل للأصوات في الدوائر الأكثر فقراً . يشترك مع الجميع المستعرب الفرنسي فرانسوا بيرغا، فيؤكد أن معارضة الانقاذ تعكس غياب وجود توزيع عادل للريع النفطي بين كافة فئات الشعب حيث لا يستفيد منه إلا القلة من الأفراد المرتبطة بالنظام. وفي المقابل فإن الجماعات التي تنضم بشكل طبيعي إلى المعارضة الإسلامية هم، منطقياً، أولئك الذين لم تصلهم فوائد الريع النفطي التي يوزعها النظام .

الصدام بين الإسلام التقليدي وإسلام المدينة الجديد

من الواضح أن الحركات الإسلامية في الوطن العربي مرتبطة شديدة الارتباط بالمدينة، أي هي حركات مدينية وليست فلاحية. فالريف العربي يرفض عادة الإسلام السياسي، لأنه ببساطة لا يري نفسه في حاجة إلى دروس في الإسلام من المدينة التي عادة ما يحتقرها ولا يراها فاضلة بالمعني الديني والأخلاقي. إضافة إلى ذلك حافظ الريف علي البنى التقليدية وأهمية موقع الشيوخ والكبار في السن في التأثير الاجتماعي وتشبث باعتقاد أفضليته الأخلاقية علي المدينة وكونه ممثلاً للنقاء الاجتماعي ولاحترام العادات والتقاليد. أما إسلاميو المدن فأغلبهم شباب متمرد علي سلطة الشيوخ ويفسرون القرآن بطريقة ثورية خاصة بهم. لكن في المقابل يجب أيضاً ملاحظة أن إسلاميي المدينة تعود أصول أغلبهم إلى الريف، فهم نتيجة النزوح العشوائي الذي قامت به أسرهم في سنوات الخمسين والستين والسبعين من القرن الماضي وكذلك نتيجة فشلهم في الاندماج في الحياة الحضرية.

نحو نقد التفسير المادي

لا بد من مشاركة ملاحظة المؤرخ الجزائري محمد حربي في قوله أن التركيبة الاجتماعية لتنظيم الانقاذ تكشف لنا، في أكثر من مجال، مدى انغراس الإسلاميين في كافة طبقات الشعب . هذه الملاحظة الجادة تدفعنا إلى أكثر من تساؤل وتجعل من بعض تحاليلنا المادية السابقة مسألة نسبية. فالأسئلة التي يجب طرحها عديدة، لعل أهمها: لماذا تشمل الحركات الإسلامية على فئات وطبقات مختلفة ومتنوعة في الآن نفسه ( ما هي المصلحة الاقتصادية الاجتماعية التي تدافع عنها؟ كيف نفسر تواجد أو تعاطف شخصيات سياسية كثيرة معها سبق أن خدمت الأنظمة العربية نفسها. ما هي النتائج التي توصلنا اليها ويجب علينا الآن تحجيمها؟ أليس إلحاحنا وإلحاح العلوم السياسية الغربية خاصة على العوامل الموضوعية أي الاقتصادية المادية ودورها في ظهور الحركات السياسية بصفة عامة والحركة الاسلامية بصفة خاصة أمراً مبالغاً فيه؟ ألا تحد هذه العوامل من ذاتية الحركات الاسلامية ودينامية عملها الداخلية المستقلة نسبياً عن عوامل المحيط؟ نريد أن نقول وماذا عن العوامل الثقافية، أي الذاتية، أي تلك المرتبطة بالدينامية الداخلية لأي حركة اجتماعية تعبوية؟

المقاربة الثقافية تحد من المقاربة المادية

في مقال شهير له حول الثورة الايرانية عنوانه "الفرصة البنيوية وتصور الفرصة في نظرية الحركة الاجتماعية: الثورة الايرانية "1979 ، يضع عالم السياسة شارلز كرزمان محل تساؤل دور العوامل الموضوعية المادية في إنجاح الثورة الايرانية. فهو يعتقد، أنه علي عكس ما نعتقده حول الثورة الإيرانية، فالعوامل المادية كانت في صالح الشاه وليست ضده. ويبين حصول الثورة رغم الرفاهية الاقتصادية العامة التى سادت البلاد، ورغم الدعم الخارجي الأمريكي الذي استمر لآخر لحظة، ورغم وحدة الجيش الامبراطوري ووفائه وطاعته للامبراطور... ورغم كل ذلك حدثت الثورة، والسبب حسب رأيه يكمن في الدينامية الذاتية الداخلية للثورة التي كانت شديدة القوة بمعزل عن المحيط حتى أنها نجحت رغم قوة الخصم ووجود دعائم كثيرة لديه. فهو يؤكد إذن علي العامل الذاتي.

العوامل الثقافية التاريخية

ونحن بدورنا اليوم ندرك أن بعض الأحداث السياسية الكبيرة ساهمت في دعم الحركة الاسلامية في الوطن العربي، لنذكر أولاً بنكسة 1967 التي انتكس معها، ايديولوجياً، مشروع الحداثة الناصرية وأنتجت عودة الإسلام السياسي بشكل قوي كبديل عن الاشتراكية العربية الوحدوية، ثم مجيئ الثورة الإيرانية ونجاحها الذي شد إليه كثيراً من الشباب العربي فتدعم الخيار الديني بهذا الحدث الكبير. بالنسبة إلى حالة الجزائر يذكر الزعيم الماركسي الجزائري هاشمي الشريف دور نجاح ثورة الخميني فيقول: "مثلت هذه الفرصة الثمينة، بالنسبة إلى الأصولية على الصعيد الوطني، ظرفاً عالمياً جيداً حتي تنطلق مستفيدة منه..." . أخيراً، يمكننا القول أن حرب الخليج الثانية إضافة إلى الحظر الدولي الذي تم ضد ثلاثة بلدان عربية هي العراق، ليبيا والسودان ونهاية الحرب الباردة التي اضمحلت معها الشيوعية العالمية، ثم سقوط بغداد العملي والرمزي سنة 2003 واحتلالها... جعل الحركات الاسلامية تنفرد بالمقاومة ضد ما سمي بـ "النظام العالمي الجديد" ، كما يمكننا التنبيه إلى أن الصعود القوي للحركات الاسلامية في أواخر الثمانينات وبداية التسعينات هو إفراز لانتشار فكرة مشروع "النهضة الاسلامية الكبري" أكثر منه إفرازاً لدور البطالة والأزمات الاقتصادية وإلا كيف نفسر تواجد هذه الحركات لدى بلدان الخليج العربي الغنية بنفطها وبدخلها الفردي الخام؟ وفي نفس الإطار يمكننا التساؤل أيضاً: ما الذي يدفع بملياردير كأسامة بن لادن للتضحية بكل شيء في حياته من أجل ما يسميه ب"القضية الاسلامية" !
وحتى نختم هذا المقال بشكل متوازن لا بد من إعادة التركيب لنستنتج أن كافة هذه العوامل سهلت مهمة الإسلاميين. وبقطع النظر عن طغيان الأسباب المادية أو الأخرى الثقافية. فهي، مجتمعة، ساهمت في تغذيتها وساعدتها على الانتشار. واستخدمت الحركات الإسلامية خطابا شعبويا استطاعت من خلاله اختراق كافة الطبقات والفئات السوسيومهنية المختلفة.

في صعود الحركات الإسلامية وهبوطها في الوطن العربي - بعد نكسة 1967 وفشل الإسلام السياسي هل يكون المستقبل للديمقراطية؟

رياض الصيداوي

حاولت الحركات الإسلامية منذ نكسة 5 حزيران (يونيو) عام 1967 أن ترث كلية حركة القومية العربية التي كان يجسدها الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر من جهة وحزب البعث العربي الاشتراكي من جهة أخري. أرادت أن تكسب الشارع العربي لصالحها نهائيا من أجل تهديم الدول القائمة وإقامة ما تسميه دولة إسلامية . وتحالفت في سبيل ذلك مع دوائر الرأسمالية العالمية ووجدت في واشنطن سندا قويا لها. حيث كانت الولايات المتحدة الأمريكية منشغلة بمحاربة كل ما هو يسار سواء كان شيوعيا أمميا أم قوميا عربيا أم حتي وطنيا محليا. هذه الحركات عاشت مجدها في سنوات الثمانين بانتصار الثورة الإيرانية سنة 1979، وبانتصار المجاهدين الأفغان ضد الاحتلال السوفييتي. لكنها اليوم، بدأت تتقهقر وتخسر في جميع المجالات حيث أصبحت هدف الدول الغربية بعد أن كانت حليفة لها. والأهم من ذلك أن الحركات الإسلامية قامت بتأخير التجربة الديمقراطية في الوطن العربي لخوف الحكومات القائمة منها. فكانت النتيجة أن تضاعفت قوة أجهزة الأمن لمجابهة الخطر الأصولي كما تضاعف حذر هذه الحكومات من ما تسميه بـ المغامرة المتسرعة للديمقراطية ويستدلون علي ذلك بالتجربة الجزائرية.

تراجع المواقف

من الضروري ملاحظة أن الحركات الإسلامية بشكل عام في كل أنحاء الوطن العربي بدأت تراجع مواقفها وإستراتيجيتها جذريا. فقد تبخر حلم إقامة دولة إسلامية بقوة السلاح وعبر منهج الجهاد.. وتبين أن الدولة العربية أكثر قوة بكثير مما كان يتصور وأن الثورة الإيرانية غير قابلة للتصدير كما أن هزيمة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان أمام قوات المجاهدين هي هزيمة جاءت في سياق آخر مختلف تماما عن السياق العربي. هذه الحركات الإسلامية بدأت تغير من خطابها ومن أسلوب عملها وتبتعد عن العنف لتستخدم طرقاً أخري تعتمد علي الاندماج في مكونات المجتمع المدني ومحاولة النضال من خلاله. فنجدها في بعض البلدان تربط علاقات تعاون مع التيارات اليسارية والديمقراطية والليبرالية وتندمج في النقابات ومنظمات حقوق الإنسان وبخاصة في الجمعيات الخيرية. وهي اليوم، تخرج من المحلية الضيقة وتحاول ربط علاقات دولية مع المنظمات غير الحكومية العالمية مثل منظمة العفو الدولي، أو منظمة (مراسلون بلا حدود).. هذه الخيارات الجديدة كانت إفرازا لعملية تفكير في المأساة الجزائرية والخوف من تكرارها في أي بلد. ثم أصبح هذا الخيار مخرجا وحيدا لهذه الحركة بعد أن نجح أسامة بن لادن في تأليب كل العالم عليها.

التجربة الجزائرية

يمكن اعتبار التجربة الجزائرية المفصل الحاسم لإمكانية نجاح ثورة إسلامية أو فشلها. وبعد 10 سنوات من العنف الدموي الذي ذهب ضحيته ما يقارب 200 ألف قتيل، يمكننا الاستنتاج أن هذه التجربة مثلت المحك الأول الذي فشلت عليه أقوي حركة إسلامية عربية في الوصول إلي السلطة. وهي التي فصلت بين عهدين : عهد صعود وانتشار الحركات الإسلامية وعهد هبوطها واندحارها. وكانت الأنظار جميعها متجهة نحو هذا البلد منذ بداية الأزمة.
رغم أن الدول العربية لم تتضامن رسميا مع السلطة الجزائرية في محاربتها للإسلام السياسي ولم تقم بحملة كبيرة لدعمها عسكريا وماديا.. فإنها تعترف، أنظمة المغرب العربي بشكل خاص والأنظمة العربية بشكل عام، ولو ضمنيا دون إعلان ذلك، بفضل المؤسسة العسكرية الجزائرية علي استقرارها عندما قمعت وردعت الجبهة الإسلامية الإنقاذ. فكل القادة العرب يدركون أن ضباط هذا الجيش أنقذوا كل المنطقة العربية من الخطر الإسلامي الأصولي. وهم يدركون أيضا أن نجاح الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الوصول إلي الحكم في الجزائر لن يبقي نجاحا محليا وإنما ستنتشر العدوي إلي جميع أرجاء المنطقة. فتونس عاشت ارتياحا كبيرا منذ تدخل الجيش ووقفه للمسار الانتخابي وقامت بمراقبة حدودها جيدا خوفا من امتداد عدوي الحركات الإسلامية إلي ترابها.

المغرب والحركة الإسلامية

أما المغرب فقد اتبع استراتيجية خاصة به وبخصوصيته الإقليمية: فهذا البلد يريد أن يكون في الوقت نفسه مملكة تعيش التقليد والحداثة. فهو يريد من جهة أن يسرع الخطي في تجربته الليبرالية الإصلاحية حتي يوطد تجربته الديمقراطية الناشئة، ولكنه يخشي من جهة أخري انتصارا كبيرا ساحقا للإسلاميين في الانتخابات المقبلة. ذلك أن بعض المراقبين نبهوا إلي إمكانية حدوث فوز الإسلاميين علي حساب ترهل اليسار التقليدي وهو ما سيجبر السلطة المغربية علي مواجهة مثل هذه النتيجة بسرعة وبدون ارتباك حتي لا يعاد سيناريو الجزائر. وتوجد مؤشرات عدة دالة من بينها: المتابعة اليومية للإسلاميين ومضايقتهم أمنيا، حيث أغلقت بعض مواقعهم علي الإنترنت ومنعوا من إقامة معسكراتهم التربوية علي شاطئ البحر.. ويبدو من خلال هذه الحوادث المتتالية، أن السلطة المغربية عازمة علي ردع الحركة الإسلامية عندما تحاول تشكيل خطر حقيقي علي النظام. فهي استفادت كثيرا من التجربتين الجزائرية أو التونسية. وفي المقابل، يجب التنبيه إلي أن الحركة الإسلامية المغربية أيضا استفادت بدورها من تجربة جارتها الجزائرية. فالطرفان يبدوان عازمين علي تفادي إعادة المأساة الجزائرية ودفع ثمن باهظ لعملية ديمقراطية لم تتم بسلام. كما يبدو أن الإسلاميين المغاربة يميلون إلي عملية الأسلمة من القاعدة كمنهج سلمي يتجنب العنف ويستخدم بدلا منه طرق التضامن الاجتماعي والجمعيات الخيرية حتي لا يصطدمون مباشرة بملك يشغل موقع أمير المؤمنين. وهم يجدون أنفسهم مضطرين لانتهاج منهج الاعتدال في إطار دولي معاد لكل ما هو حركة إسلامية.

التجربة المصرية

يمكن اعتبار التجربة المصرية مرجعية أساسية وأولي في فهم تطورات الحركات الإسلامية وتحولاتها في الوطن العربي، حدث أنْ أعرب كثير من قادة الجماعات الإسلامية المسلحة عن تخليهم عن منهج استخدام العنف وقاموا بحوارات مع السلطة المصرية شارك في التوسط فيها محاميهم منتصر الزيات ليتحولوا نحو خطاب معتدل يتجنب العنف وليوقفوا بشكل كبير عملياتهم العسكرية المسلحة ضد الدولة ورموزها. لقد توصلوا بعد مراجعة ونقد ذاتيين إلي نتيجة مفادها أن العنف المسلح لم يسقط النظام وإنما علي العكس قوي من قدراته الأمنية والمخابراتية وجعله يشد الخناق عليهم وعلي أنشطتهم. هذا التطور له دلالات كبري، إذ يعني بالدرجة الأولي اعتراف الحركات الإسلامية المصرية العنيفة بفشلها في الوصول إلي الحكم عن طريق القوة.

دور أسامة بن لادن

من الممكن القول إن الحركات الإسلامية في الوطن العربي وفي العالم هي أول الخاسرين من الهجمات الانتحارية التي استهدفت نيويورك وواشنطن في 11 ايلول (سبتمبر) عام 2001، فأسامة بن لادن وجه ضربة قاسمة للحركات التي تشترك معه في الأيديولوجيا نفسها: أي الأصولية الإسلامية. وثاني الخاسرين هم العرب والمسلمون والإسلام. فإذا كان لبن لادن عبقرية: فهي تتمثل في حشده الأعداء وتجميعهم ضد العرب. فالهند الصديق التقليدي للقضية العربية الفلسطينية أصبحت عدوا كذلك الصين وروسيا وأمريكا وكل المسيحيين في العالم. أصبح العالم كله في جبهة واحدة لمناهضتنا وأصبح العربي محل شبهة علي متن طائرة صينية ولا أقول أمريكية. كما أصبح العرب عرضة للمضايقات والتفتيش والمراقبة الأمنية المستمرة في أوروبا وبخاصة في أمريكا. نجد عشرات الملايين العرب المهاجرين يعانون منذ 11 ايلول (سبتمبر) من فعلة بن لادن.

خسارة الحركات الإسلامية

لقد أصبحت هذه الحركات الإسلامية عالمية كانت أم عربية في حصار شديد منذ هجمات 11 ايلول (سبتمبر) عام 2001 الانتحارية ضد برجي مركز التجارة العالمي والبنتاغون في أمريكا. حيث أصبحت محاصرة من قبل حكوماتها في الداخل ومن قبل الدول الغربية في الخارج.. وهو ما سيدفعها نهائيا إلي نبذ كل أشكال العنف خطابا وحركة حتي تستطيع أن تطرح نفسها كقوي سياسية مقبولة من المجتمع الدولي. ولنتذكر أن هذه الحركات نفسها كانت تجد نوعا من التفهم من قبل الحكومات الغربية وتتعاطف معها منظمات حقوق الإنسان الدولية، وحتي في الجامعات ومراكز البحوث الغربية وجدت تيارات فكرية تدعو إلي ضرورة إعطاء الإسلاميين فرصة الحكم وممارسته. بل وصل الأمر إلي شن حملات إعلامية عنيفة ضد السلطات التي تصدت في بلدانها للإسلام السياسي. فضباط الجيش الجزائري مثلا حصلوا علي النصيب الأكبر من الاتهامات التي كادت توصلهم إلي محاكمات دولية كمجرمي حرب. كما انتقدت الأنظمة المصرية والتونسية والسورية بشكل قوي في أسلوبها الذي حاربت به هذه الحركات. لم يكن الغرب بصفة عامة مرتاحا لعمليات التعبئة الجماهرية التي تقوم بها الحركات الإسلامية في مواجهة أنظمتها وفي مواجهة الغرب ذاته الذي اقتصر الصراع معه علي الخطاب، لكن في الآن نفسه كان مستعدا للتعامل معها كواقع موجود علي الساحة السياسية. وقد استفادت كثيرا من الحريات المتوفرة فيه لتنشر دعوتها وخطابها وتفعل ما لا تستطيع فعله في أوطانها حتي أن بعضاً ذهب إلي أن لندن هي القلعة الفعلية للإسلام السياسي وليست قندهار ولا كابول. وذلك لتعدد التنظيمات، والوجوه الراديكالية التي تنادي بالجهاد، وكثرة النشرات التي تطبع... دون محاسب ولا رقيب. اليوم، لم تعد لندن مرتعا خصبا كما في الماضي للحركات الإسلامية، بل علي العكس أصبحت مراقبة هذه الحركات يومية والضغوط علي قادتها منهجية ونسقية.

انتهاء التفهم الغربي

بداية نزول الحركات الإسلامية تم رصده مبكرا، حيث كانت مراكز القرار والفكر في الغرب تدرك أن الحركات الإسلامية في الوطن العربي قد خسرت المعركة بخسارة حربها ضد الجيش الجزائري. حيث مثلت التجربة الجزائرية خط الدفاع الأول للأنظمة العربية الذي صمد في مرحلة أولي ثم انتصر أو أوشك في المرحلة الثانية. تفطن عالم السياسة الفرنسي أوليفياي كاري مبكرا إلي بداية هبوط الحركات الإسلامية وأصدر كتابه الذي أثار الانتباه وعنوانه فشل الإسلام السياسي ثم جاء بعده جيل كيبيل المختص الفرنسي في الوطن العربي والعالم الإسلامي وأصدر سنة 2000 كتابه الجهاد: توسع وانحطاط الإسلامية . وحتي خبراء ومفكرو الغرب يرون اليوم في هجمات 11 ايلول (سبتمبر) تأكيدا لرأيهم اعتمادا علي نظرية في علم السياسة تقول إن الالتجاء إلي الإرهاب يتم حينما تفشل الحركة السياسية في عمليات الاستقطاب والتعبئة الجماهيرية فتلتجئ إلي العمليات الإرهابية كآخر حل لتبقي طافحة علي الساحة ولا تندثر. والمثال الأبرز علي هذه النظرية هو اليسار الأوروبي الذي كان شعبيا في الستينيات حتي وصل أوجه في أحداث ايار (مايو) سنة 1968 ثم أصاب نفس هذا اليسار الضعف في أواخر السبعينيات فالتجأ إلي تشكيل التنظيمات الإرهابية ليحافظ علي وجوده، فبرزت منظمات الجيش الأحمر والعمل المباشر والأولية الحمراء.
سيستمر هبوط الحركات الإسلامية في المستقبل، باستثناء الحركات الإسلامية المندرجة في إطار حركة التحرير الوطني مثل حزب الله في لبنان أو حماس في فلسطين.. وستترك هذه الحركات فراغا بدأت حركة الديمقراطية في الوطن العربي في ملئه. فالمستقبل سيكون لتيار الحرية والديمقراطية والحداثة وحقوق الإنسان في مقابل الحركات الأيديولوجية الكليانية السلطوية التي بدأ نجمها في الأفول.

أروني ثورة واحدة لم تُسرق؟ ثورات يقوم بها أبطال مضحون ويقطف ثمارها الانتهازيون والوصوليون

رياض الصيداوي

كنت منذ زمن طويل مفتوناً بمفهوم (الثورة) ماضيا وحاضرا. فحاولت دراسة ما أمكنني من كتب عربية فوجدت أن البحث في هذه الظاهرة هزيل جدا، وينتمي إلي النوع التبشيري وليس إلي المقاربة أو البحث العلميين. فالقوميون العرب والماركسيون أكثر الناس غزارة في الكتابة عن هذه الظاهرة، ولكن بحوثهم اعتمدت علي ما يجب أن يكون، لا علي تحليل آليات الثورة نفسها، أسبابها، تطورها ونتائجها. ولعلي أذكر بكتب المفكر القومي الراحل عصمت سيف الدولة التي سماها (نظرية الثورة العربية)، أو كتب الدكتور نديم البيطار وأشهرها كتابه (المثقفون والثورة)، أو (من التجزئة..إلي الوحدة).. أما الماركسيون العرب فقد فرضوا علينا مفاهيم لم توجد بعد في الوطن العربي علي أرض الواقع. فخلقوا مفاهيم (البروليتاريا) و(دكتاتورية البروليتاريا).. وحاولوا التنظير للثورة في الوطن العربي بتقليد التجربة السوفييتية تارة أو بتقليد التجربة الصينية تارة أخري.. بل وجد بعضهم في التجربة الهزيلة والمضحكة للزعيم الألباني الراحل أنور خوجا مرجعية فكرية نظرية لهم. باختصار لم أجد ما يشفي غليلي ولم أجد ما يلبي فضولي المعرفي في اللغة والمكتبة العربيتين. فانتقلت إلي اللغة الفرنسية باحثا في علومها في التاريخ وفي علم الاجتماع وفي علم السياسة. باعتبار أن الفرنسية هي لغتي الثانية في تونس أو حتي لغة أولي أو موازية للغة العربية. فكل دراستي في الجامعة التونسية تمت من خلال هذه اللغة سواء كان ذلك في معهد الصحافة أو لاحقا في كلية الحقوق والعلوم السياسية. وكانت لدينا نخبة فرانكفونية في تونس لا تدرس العلوم السياسية إلا باللغة الفرنسية، وكانت تؤمن أن الفكر والعلم مصدرهما فرنسا والجامعات الفرنسية أما غير ذلك فهو حشو وشطحات فكرية غير (علمية).

علوم فرنسا الهزيلة

المهم انني بحثت في العلوم الاجتماعية الفرنسية عن مفهوم الثورة، تاريخه ونظرياته وأسباب وقوع الظاهرة أو فشلها. فقرأت كتب أندري دوكوفل Andrژ Decoufle وبخاصة كتابه (سوسيولوجيا الثورات) كما قرأت أعمال جان باشلار Jean Baechler وبخاصة كتابه (الظواهر الثورية) (Les phژnomڈnes rژvolutionnaires) وأعمالاً أخري مختلفة للفرنسيين...فوجدت أن أعمالهم تبقي ضحلة وهزيلة وإن كانت أفضل من الانتاج الفكري العربي..

التفوق الساحق للعلوم الأمريكية

ولما انتقلت إلي جنيف سنة 1994، وجدت حلقة بحث جامعية باللغة الانكليزية مخصصة لطلبة الدكتوراه والماجيستير عنوانها (الثورات)، يقدمها البروفيسور الأمريكي العالمي أندريه لايبش Andre Leibich فانضممت إليها، وسارعت وسجلت في هذه الحلقة. وكنا ستة باحثين لا أكثر. أنا، وكندي، ويونانية، وإيطالي، وسويسري وجزائرية. واكتشفت عالما مثيرا من النظريات والكتب والمراجع والبحوث لعمالقة العلوم السياسية المختصين في علم الثورة. اكتشفت أن العرب متخلفون قرونا عن العلوم السياسية الأمريكية. واكتشفت، وهذا الأهم، أن جامعاتنا في المغرب العربي تدرس الجهل والتخلف الفرنسي بدل أن تدرس العلوم الانكلوسكسونية. كم تعجبت لتخلف الفرنسيين في هذا المجال. وكم أشفقت علي أساتذتنا الذين لا يولون منارتهم إلا لفرنسا ظانين أنها مصدر العلم الذي لا ينضب. كم رثيت لحالهم حينما درست تشارلز تيلي Charles Tilly وكتبه العظيمة (من التعبئة إلي الثورة) (From mobilization to revolution)، (الثورات الأوروبية) (European revolutions)، ..وغيرها من الكتب العملاقة. وقد زارنا تيلي في جامعة جنيف، كما استخدمت نظريته في الثورة كمرجع لي في كتابي (FIS, GIA, Armژe: Vainqueurs et vaincus. Perspectives) (الفيس، الجيا، الجيش: منتصرون ومنهزمون. آفاق الصاع) الذي سيصدر في الشهر القادم عن دار (بيبلي سيد) (Publisud) الباريسية. وقرأت ودرست كتبا أخري عظيمة أعدد بعض كتابها علي سبيل المثال ولا الحصر: تيدا سكوشبول وكتابها (social revolutions)، وكتب تاد غور، وبرنتون كرين، ودلا بورتا... باختصار اكتشفت أن علم الثورة هو علم انكلوسكسوني مثله مثل علم الاجتماع أو علم السياسة أو التاريخ.. أما المنتوج الفرنسي الذي يدرس لطلبة المغرب العربي فهو ثرثرة وإضاعة وقت مع بعض الاستثناءات القليلة. حتي الجيل الشاب من الباحثين والجامعيين الفرنسيين المتخلصين من عقدة الوطنية الفرنسية يعتقد اليوم أن فرنسا شديدة التخلف في مجال العلوم الإنسانية بالمقارنة مع العالم الانكلوسكسوني. أذكر مفكرين مثل أوليفياي فيلول أو ميشال فيويوركا اللذين انضما بدورهما إلي العلوم الأمريكية وأقرا بهزالة الانتاج الفرنسي وضحالته.
قد نحب أمريكا سياسيا كما قد نكرهها..لكن علينا أن نعترف أن علومها الاجتماعية والإنسانية هي الأكثر تقدما في العالم، ولا مجال لمقارنتها بما تنتجه فرنسا مثلا.

علم الثورة والوطن العربي

لقد وفر لي الأستاذ أندريه لايبش فرصة الاطلاع علي كثير من النظريات ودراسة كثير من الآثار لعمالقة هذا الاختصاص. وأذكر أنه في آخر حصة، طلب منا التفكير بشكل حر والتفلسف في مفهوم الثورة من دون العودة إلي المنظرين والمفكرين الذين درسناهم. وجاء دوري في الحديث، وأذكر أنني قلت، إن علم الثورة سيكون موضوعه في المستقبل الوطن العربي. فهذا العالم الجيوسياسي بقي وحيدا في طور المرحلة الانتقالية بين الحداثة والتقليدية في حين استقرت بقية دول العالم في النموذج الديمقراطي الليبيرالي، وأنه سيشهد ثورات سلمية في المستقبل من أجل الديموقراطية. وأذكر أيضا أنني قلت إن الثورة لا معني لها إذا ما نظرنا في تاريخ الثورات التي يقوم بها رجال مخلصون مبدئيون يضحون بأرواحهم أو بثلثي أعمارهم..ليجني ثمارها الانتهازيون والوصوليون. وأعطيت أمثلة كثيرة من التاريخ، وقلت لهم (أروني ثورة واحدة عبر التاريخ لم تسرق؟ لم يسرقها أبناؤها؟).

الانقلاب علي المسيحية

تسرق الثورة في وضح النهار.. يسرقها أبناؤها الذين تخفوا فيها من الداخل. يثور عيسي بن مريم عليه السلام باسم الفقراء ومع الفقراء. تواجههم الإمبراطورية الرومانية بالقتل والتنكيل والتعذيب والتشريد..وهذا شيء مفهوم. أما أن تعتنق الإمبراطورية الرومانية فجأة المسيحية وتنكل بنفس الفقراء، لكن هذه المرة باسم حماية المسيحية من الانحراف ومحاربة المهرطقين، فذلك لا يفهمه العقل. لقد ترومت المسيحية ولم تتمسح روما.

الانقلاب علي الإسلام

من حارب الإسلام في بدايته؟ ألم يحاربه بنو أمية بكل قوتهم وجبروتهم. ومن حمل رايته؟ ألم يحملها الفقراء المستضعفون من أمثال بلال بن رباح وعمار بن ياسر..وغيرهما من ضعفاء مكة. ولكن ماذا حدث؟ يا إلهي، إن أعداء الثورة الإسلامية بالأمس يحكمون اليوم باسم الإسلام. بنو أمية في الحكم يرثونه أبا عن جد لحوالي قرن من الزمان. حكام الأمس، ما قبل الإسلام، صاروا حكام اليوم بالإسلام..دائرة مفرغة أم فذلكة تاريخ.

الانقلاب علي الثورة الفرنسية

وينزل الشعب (الشعب هو الطبقة الثالثة: الأولي الإقطاعيون والثانية هي البرجوازية حسب أدبيات الثورة الفرنسية) إلي شوارع باريس ليقتلع الملك لويس السادس عشر من عرشه وينجح في ذلك. يا له من عمل ثوري عظيم، لقد انتصرت أخيرا الأغلبية المحرومة علي الأقلية المستبدة. ولكن ما الذي جري؟ إن المقصلة الفرنسية تقطع رؤوس الثوار باسم الثورة..إنها تفصل رأس الثائر الكبير روبس بيار عن جسده.. وتتمركز البرجوازية الفرنسية في الحكم منذ ثورة 1789 إلي اليوم.. ولا أحدا يهددها في وجودها.. أما ذلك الشعب فقد بقي مجرد شعب!

الانقلاب علي الثورة البلشفية

فلاديمير إليتش أوليانوف لينين يلتف حوله البلاشفة ليغيروا العالم بأفكارهم الثورية. ويتمكن بعبقرية سياسية نادرة من تدمير الدولة القيصرية ثم الحكومة البرجوازية التي تلتها ويقيم أول دولة اشتراكية في العالم. وأخيرا يتنفس الفقراء الصعداء، إنهم يحققون آمالهم بعد قرون وقرون من المعاناة والصبر. إنهم يصلون اليوم إلي السلطة ليبنوا مجتمع آمالهم وأحلامهم. لكن رجل الثورة الأول يموت ويخلفه ستالين. فيصرخ ليون تروتسكي بفزع لقد غدرت الثورة (تروتسكي وكتابه: الثورة المغدورة). الستالينيون يتهمون تروتسكي بالتحريفية ويقولون هذه هي ثورة البروليتاريا الحقيقية. ويموت ستالين ويخلفه نيكيتا خروتشوف. وفي المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي المنعقد سنة 1956 يصيح خروتشوف بكل شجاعة: والآن لنتفس الصعداء بعد أن كنا مختنقين تحت قبضة نظام دكتاتوري، أين كنت يا رفيق خروتشوف بالأمس؟! وفي هذه المرة يصيح الشيوعيون الستاليون بأكثر فزع: إنها النهاية، لقد سرقت الثورة ولم يبق منها إلا ضريح لينين في الساحة الحمراء. أما الرئيس بوريس يلتسين فقد تمكن بفضل إخلاصه للحزب الشيوعي السوفييتي طيلة عقود من الزمن من تسلق الهرم القيادي لهذا الحزب، بعد أن كلت يداه من كثرة التصفيق لدكتاتورية البروليتاريا، مثله مثل رئيسه غورباتشوف، والبقية معروفة.

الانقلاب علي ماوتسي تونغ

في سنة 1919 يجتمع ماوتسي تونغ في شقة متواضعة مع مجموعة من الشيوعيين لا يتجاوز عددهم عدد الأصابع ويقررون تأسيس الحزب الشيوعي الصيني وبداية النضال. وفي سنة 1949 يتمكن الأنفار القليلون بقيادة ماوتسي تونغ من القضاء علي حكومة تشان كاي تشاك ويبدأون تطبيق أحلامهم علي أرض الواقع. ويكتشف ماوتسي تونغ سنة 1965 أن الثورة مهددة من قبل البيروقراطية الجديدة بالسرقة، فأشعل الثورة الثقافية ورفع شعار الأولوية المطلقة للايديولوجيا والتكوين العقائدي الشيوعي علي حساب العمل الاقتصادي ونجاح الأرقام. ويذكر، والعهدة علي الراوي، أن دنغ سياو بنغ، الرجل الذي أعاد تشكيل الصين الحديثة نحو الرأسمالية، قد أركبه الحرس الأحمر علي ظهر حمار وقد أولوا وجهه ذيل الحمار وألبسوه طرطورا أحمر ولفوا به شوارع بكين ثم أدخل إلي السجن..

الانقلاب علي عبد الناصر

ليلة 23 تموز (يوليو) 1952 كان محمد أنور السادات يتسلي في السينما مع زوجته جيهان في حين كان الضباط الأحرار ينجزون أخطر عمل سيغير واقع المنطقة العربية علي مدي ثماني عشرة سنة.. ستنتصر الثورة وتبدأ في تطبيق شعاراتها الثلاثة: الحرية، الاشتراكية، الوحدة.. وتخوض معارك شرسة ضد أعدائها في الداخل والخارج. تنتصر وتنتكس، إلا أنها لا تحيد عن طريقها. ذات مرة قال جمال عبد الناصر لأنور السادات ومحمد حسنين هيكل في جلسة خاصة: (أخاف علي الثورة من الذي سيخلفني، فقد يقدر الأعداء علي استقطابه ومن ثمة يغدر بالثورة)، وهنا صاح أنور السادات (لو أعرف هذا الخائن لأقطع رقبته يا ريس) وتمضي الأيام ويقطع السادات الرأس ويكون، يا للمصادفة، رأس الثورة ذاتها..

الانقلاب علي ثورة 1954 الجزائرية

كانت ثورة الجزائر ثورة فلاحين بأتم معني الكلمة. فالفلاح الجزائري هو الذي ثار، هو الجندي، هو الذي أعطي للثورة بدون حساب. علل الرئيس الراحل هواري بومدين انقلابه في 19 حزيران (يونيو) 1965 علي أحمد بن بلا قائلا (لقد قررنا منذ أيام حرب التحرير أن نواصل ثورتنا بعد الاستقلال، فالفلاح الجزائري لم يثر حتي يصبح (خماسا) لدي الاقطاعيين الجزائريين بعد الاستقلال). مسكين هو الفلاح الجزائري اليوم، لم يكفه الفقر المتقع الذي يعيشه حتي يصبح أسهل فريسة لعصابات الذباحين، وحتي تحتل أخبار المجازر التي ترتكب في حقه الصفحات الأولي من الإعلام الدولي..

نحو علم سرقة الثورة

... وعلي حد قول الدكتور نديم البيطار (إن الظاهرة السياسية إذا تكررت عبر التاريخ، يصبح هناك قانون علمي عام يتحكم فيها)، ونتساءل نحن ما هو هذا القانون العام العلمي الذي يتحكم في ظاهرة سرقة الثورة؟
وفي الختام اقترحت علي البروفيسور أندريه لايبش وعلي زملائي الباحثين أن نؤسس علما جديدا، نسميه علم اجتماع سرقة الثورة، أو علي حد تعبير (الأكاديميين جدا) سوسيولوجيا سرقة الثورة!

التجربة الجزائرية مثالا - هل يمكن للجيش تطبيق الاشتراكية والتكفل بعملية التنمية؟

رياض الصيداوي

كتب فرحات عباس رئيس أول حكومة مؤقتة للجمهورية الجزائرية قائلا: تعد الاشتراكية معطي جديدا أضيف لبيان أول تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1954. حيث لم يتعرض الي ذكرها أحد طيلة سنوات حرب التحرير. وأضاف ساخرا: ان سلوك الجمهورية الجزائرية يشبه سلوك امرأة زانية. متزوجة رسميا وعلنا بالاسلام، في حين تنام سرا في فراش ستالين.
أما العقيد هواري بومدين فقد قال: ان السؤال الذي يطرح اليوم يتمثل في معرفة هل يمكننا أن نتحدث عن الاشتراكية ونتجاهل في الآن نفسه الجيش؟ شخصيا، أنا مقتنع، واقتناعي يعتمد علي تحليل موضوعي وتاريخي، انه خطأ كبير التفكير في تطبيق الاشتراكية وتنفيذ الحلول وفي الآن نفسه نتجاهل القوات المسلحة.

مرحلة بن بلا

في يوم 4 آب (اغسطس) عام 1962 دخل أحمد بن بلا منتصرا الي العاصمة الجزائرية تحت حراسة قوات هيئة الأركان. ولم يتأخر كثيرا في تطبيق النموذج الاشتراكي في الجزائر معتمدا علي مساعدة مصر الناصرية وبقية الدول الاشتراكية والشيوعية في العالم.
أصدرت الحكومة الجزائرية في شهر تشرين الاول (اكتوبر) عام 1962، وبتشجيع من قيادة الجيش، قراراً يلغي كل الاتفاقات التي حدثت قبل الاستقلال ويشرع إنشاء لجان تصرف. يجب ملاحظة أنه قبل عام 1962 امتلك 22 ألف اوروبي 7،2 مليون هكتار من الاراضي الزراعية. أي أن المعدل بلغ 127 هكتار للمالك الواحد. في حين كان هناك 630 ألف مستغل جزائري يشتركون في 7 مليون هكتار، أي 12 هكتار لكل عائلة، دون أن ندخل في الحسبان الفلاحين الذين لا يمتلكون أصلا اراضي وعددهم كبير. اضافة الي أن 75% من الاراضي السقوية والخصبة كان يمتلكها المستعمرون الاوروبيون. و90% من هذه الاراضي امتلكها 6 آلاف مستوطن.

الاهتمام بالفلاحة

وكان اتجاه وزير الفلاحة آنئذٍ عمران اورغان نحو تأسيس ضيعات كبري تمتلكها الدولة علي الطريقة السوفياتية او الكوبية وفي آذار (مارس) عام 1963 دخل التسيير الذاتي حيز التنفيذ. ان هذا الانشغال الدائم بالفلاحين والفلاحة يعكس الانتماء العاطفي للقيادة العكسرية لهذه الطبقة. ورغم ان الفريق الحاكم يشترك في الافكار الاشتراكية نفسها، إلا أن الخلاف سرعان ما دب في صفوفه وعادت قضية صراع السياسيين مع العسكر الي المواجهة مرة اخري.
يقول عالم السياسة الجزائري عبد القادر يفصح: عاشت الجزائر نظريا تحت نظام الحزب الواحد. ولكن عمليا، ورغم التغطيات المؤسساتية والايديولوجية،، فإن الجيش ظل العامل المحدد بل المصدر الاول لأمن النظام السياسي.
واعتقد بعض المحللين أن انقلاب 19 حزيران (يونيو) هو الانقلاب الثاني للجيش بعد انقلاب/ تحالف مع بن بلا ضد الحكومة الجزائرية المؤقتة عام 1962. ويذكرنا فراد ريغز في هذا الموضع بأنه لا يجب علينا أن ننسي أن العسكر هم في الواقع بيروقراطيين. ويضيف: تمنعنا الفكرة التقليدية القائلة بأن الجيش لا يمثل جزءا من البيروقراطية وأن الانقلابات العكسرية تدفع بالعسكر الي السلطة، من إدراك حقيقة الاشياء. وهي معرفة أن كل الموظفين، سواء كانوا عسكرا او مدنيين لديهم المصالح نفسها كأعوان دولة، حيث يعتمد الامن، والدخل، والمركز الاجتماعي علي الحكومة. وفي الازمات نجدهم مضطرين لدعم المجموعات القادرة علي حماية هذه المصالح. إن الحكومات العسكرية التي يشكلها مجموعات الضباط تحتوي عادة علي موظفين مدنيين سامين وتتمتع بدعم بأعداد كبيرة من أعوان الدولة.

مرحلة بومدين

أراد الجيش الجزائري الاستحواذ علي كل السلطات، عزل الرئيس وسجنه، واحتواء حزب جبهة التحرير الوطني، فنجح في انقلاب 19 حزيران (يونيو) عام 1965. لقد برزت تطلعات العسكر في الحكم منذ عام 1962 حينما أعلنوا أن الاستقلال تم عبر كفاحهم وأنهم عازمون علي بناء دولة عصرية. وواصل الجيش غرس عقيدة تفوقه علي الدولة والمجتمع لدي الضباط الشبان.
لقد مثل انقلاب عام 1965 آخر مرحلة للجيش حتي يستلم كل السلطات نهائيا في الجزائر. كان هواري بومدين هو القائد الكاريزمي لهذه المؤسسة وتحيط به مجموعة من الضباط الشباب المتميزين بانضباطهم ووفائهم وولائهم المطلق لزعيمهم. وعندما شكل بومدين مجلس الثورة ليحكم عبره البلاد رفع شعارا قال فيه: يجب ان تعود السلطة لاولئك القادرين علي قيادة الرجال في المعركة. وحتي يحقق أهدافه كان قد عمل منذ أيام حرب التحرير علي تشكيل تكتل داخل الجيش سمي بـ(كتلة وجدة) نسبة الي مدينة وجدة المغربية حيث كان بومدين يقود الجبهة الغربية للجيش.. ففي عام 1956 كان بومدين قائدا للولاية الخامسة في الثورة، وعمل علي انتداب شباب صغار معظمهم يدرس في معاهد ثانوية في مدينة وجدة المغربية. كانت تحركه في الاول فكرة أن جيش التحرير هو ايضا تنظيم وترابط دقيق يخضع الي هرم إداري، مما يعني ضرورة انتداب مراقبين وضباط يحسنون القراءة وكتابة التقارير. فقام بإعطاء مسؤوليات خطيرة لشباب صغيري السن، بعضهم ما زال في سن المراهقة، وهم الذين سيصبحون مشهورين بعد الاستقلال وسيقودون الدولة الجزائرية الفتية. وستطلق عليهم الصحافة العالمية.

مجموعة وجدة

قدم هواري بومدين نفسه كممثل حقيقي لطبقة الفلاحين الجزائريين، ولفئة الشباب الذين عادة ما يكونوا معربين ذوي تطلعات اشتراكية، وقام لأجل ذلك باستبعاد كل الضباط الذين لا يتفقون معه في الرأي. وقد حاول في هذه المرحلة أن يعطي للجيش صورة مؤسس الاشتراكية في الجزائر وحاميها الاول. ويمكننا أن نرصد في هذه الفترة ايضا بداية الاختفاء التدريجي للنخب السياسية او العسكرية التي قادت الثورة لصالح قيادات الصف الثاني تارة، او حتي لضباط تقنوقراط عملوا في صفوف الجيش الفرنسي تارة اخري.

جسدا من دون روح

يجب ملاحظة أن هذه الفترة شهدت ايضا فقدان جبهة التحرير الوطني لكل تأثير في الحياة السياسية. كتب المؤرخ الجزائري احمد رواجعية معلقا في هذا السياق: منذ عزل الرئيس احمد بن بلا في حزيران (يونيو) عام 1965، وجدت جبهة التحرير الوطني نفسها، مرة اخري، تخسر بريقها بشكل حاد. لقد قام العقيد بومدين الذي استحوذ علي كل السلطات باستبعاده من المشاركة في اتخاذ كل القرارات السياسية المهمة. كما قام باحتقارها ووصفها بأنها جسدا بدون روح . وأصبحت من حزب طليعي فجر ثورة الي مجرد جهاز أعطي لقايد أحمد ليديره، ورغم تهميشها فقد بقي حزب جبهة التحرير الوطني وسيلة بيد سلطة بومدين والعسكريين تستخدم لمصالحهم. ويشترك في التحليل نفسه عالم السياسة الجزائرية عبد القادر يفصح حينما يقول: لقد عاشت الجزائر في الفترة الممتدة بين عام 1954 وحتي عام 1989 نظريا تحت حكم الحزب الواحد، ولكن عمليا، ورغم التمويهات المؤسساتية والايديولوجية، فإن الجيش كان العامل المحدد، بل المصدر الوحيد للسلطة السياسية. وبعد الترسيخ النهائي للحكم العسكري في الجزائر عام 1965 تمتعت الثقافة العسكرية بموقع المهيمن. وأصبحت تعتبر في الآن نفسه إرثا وطنيا ومكسبا تاريخيا. أصبحت ثقافة مسيطرة تعتمد علي ثلاثة مبادئ قائدة: التجمع، العدالة الاجتماعية والامة. وفي المقابل يجب أن نحرص علي التنبيه الي أن الجيش الجزائري في هذه الفترة ما زال يتمتع بشرعية ثورية تاريخية، تلك الشرعية التي اكتسبها من حرب التحرير كما يتمتع بنوع من الإجماع النسبي لدي الشعب الجزائري الذي لا يمنع العسكر من ممارسة السلطة او لعب أدوار عسكرية. بل لقد التزم الجيش بتحديث البلد اقتصاديا وبتنمية مقدرات الامة.

الجيش والاشتراكية

منذ استلامه السلطة كرئيس للجمهورية الجزائرية بين العقيد هواري بومدين موقع المؤسسة العسكرية بالنسبة الي الدولة والمجتمع وقال: ان السؤال الذي يطرح اليوم يتمثل في معرفة هل يمكننا أن نتحدث عن الاشتراكية ونتجاهل في الآن نفسه الجيش؟ شخصيا، أنا مقتنع، واقتناعي يعتمد علي تحليل موضوعي وتاريخي، انه خطأ كبير التفكير في تطبيق الاشتراكية وتنفيذ الحلول وفي الآن نفسه نتجاهل القوات المسلحة. ومن ثمة سيرتبط الجيش بكل مساعي التنمية الجزائرية من عام 1967 الي عام 1978. وسينفذ العسكري المشاريع الاقتصادية الكبري مثل تعمير الصحراء وإنشاء المساحات الخضراء. لقد شارك 10 آلاف جندي وضابط في هذه المشاريع. كما ساهم العسكري في الثورة الزراعية. وحسب الفلاحين، فالجيش هو الذي كان يسقي القري الفلاحية. صرح بومدين مرة في هذا السياق: سنقوم بترقية كل الكوادر التي أثبتت مدي التزامها في كل مكان من البلاد. إن ما نطلبه اليوم من الكوادر هو الكفاءة النزاهة، والالتزام بعملية تطبيق الاشتراكية. يقول فؤاد الخوري بشكل عام في هذا السياق، ويظهر أن استمرار التغييرات التي يحدثها العسكري في المجتمع لا يتوقف فقط علي أهواء القادة إنما علي تجاوب الجيش والشعب معهما. هذا يدل علي ان الانقلاب الحدث، وإن بدأ بشلة من الضباط، فإنه قد يؤثر في تنظيم المجتمع وقواعده السياسية والاقتصادية العامة. قد يحدث الانقلاب تغييرات وتبدلات تاريخية يصعب الرجوع عنها في ما بعد.
لقد أكد بومدين الخيار الاشتراكي منذ 19 حزيران (يونيو) عام 1965. لقد تأثر، مثله مثل رفاقه، بالظروف الدولية المحيطة والمتميزة بهيمنة الايديولوجيا الاشتراكية علي بقاع كثيرة من العالم. ويجب التأكيد ايضا علي مدي مساعدة الدول الشيوعية والبلدان الاشتراكية بما فيها مصر الناصرية للثورة الجزائرية، لقد شجع جميعهم الجزائر المستقلة علي انتهاج النهج الاشتراكي. كما يمكننا اضافة عامل آخر يتمثل في انتماء الرئيس هواري بومدين الي طبقة الفلاحين واعتزازه الدائم بهذا الانتماء دفعه الي التشبث بالخيار الاشتراكي. أما العامل الثالث فيجسده انتصار الشق الاشتراكي في الثورة علي الشق الليبرالي منذ هزيمة الحكومة الجزائرية المؤقتة عام 1962.

التطبيق الاشتراكي

شمل التطبيق الاشتراكي البومديني جانبين مهمين في التنمية الاقتصادية. الاول يتعلق بالفلاحة وسمي بالثورة الزراعية. أما الثاني فيتعلق بالصناعة وسمي بالصناعة التصنيعية. واستفاد من تدفق الريع النفطي في الميدانين الاثنين.
ارتكز المجهود الاقتصادي في العهد البومديني عي تحقيق هدفين، الهدف الاول يسعي الي تكثيف استغلال قطاع المحروقات والبحث عن أسواق جديدة، الهدف الثاني يسعي الي تصنيع مكثف للبلاد. حيث تم وضع أسس الصناعة الثقيلة مستفيدين من مداخيل الريع النفطي ومساعدة الدول الاشتراكية. واتخذت في هذا الصدد سلسلة اجراءات بين عامي 1966 وعام 1971 مكنت الدولة من مراقبة او الاشراف علي الانشطة البنكية، الصناعية، وقطاع المعادن والمحروقات. وأعطت الدولة الشركات المؤممة الي حوالي خمسين شركة وطنية، حيث برزت شركتا سوناطراك (الشركة الوطنية للمحروقات) و(شركة المعادن) كإحدي أكبر الشركات التي أدارت الاقتصاد الجزائري.

التصنيع الجزائري

إن محور عملية التصنيع الجزائرية اعتمد علي المشروع الاساسي الذي سمي بالصناعة التصنيعية وهو مشروع مستوحي من نظرية الاقتصادي الفرنسي دستان دو بارنيس. يعتقد هذا الاخير ان سرعة التصنيع تعتمد علي إنشاء صناعات قادرة علي زيادة انتاجية القطاعات الاخري. وتتمثل هذه الصناعات في صناعات الحديد والصلب، في الصناعات الميكانيكية، في الصناعات الكيميائية، وفي الصناعات الاليكتروميكانيكية. وحتي تقوم هذه الصناعات بدور تصنيع البلاد، يجب عليها أن تكون قادرة علي تأطير الاقتصاد والقيام بعملية التوسيع في اتجاه أنشطة اخري مثل النشاط الفلاحي الصناعي او النشاط الفلاحي، او التجارة، او مواد الاستهلاك او مواد التجهيز والانتاج. وكان الهدف من هذا المشروع الذي يمكن نعته بالمشروع التقنوقراطي، هو الاستخدام المكثف لآخر انتاجات التقنية المتقدمة في العالم بهدف تصنيع سريع للجزائر وتحويلها الي بلد مصدر للمنتوجات الصناعية. لكن المشكل الذي واجه هذا المشروع الطموح تمثل في الفشل في عمليات التصدير لوجود عقبتي قلة الجودة في المنتوج أولا، ثم احتكار السوق العالمي من قبل الدول الكبري المتقدمة ثانيا. وبعد تقلص عائدات الريع النفطي، الممول الوحيد لهذا المشروع، أفلست هذه الصناعات، وهي اليوم تمثل عبئا علي الدولة التي تحاول التخلص منها ببيعها للقطاع الخاص او للمستثمرين الاجانب.

الجيش والفلاحة

أما علي الصعيد الفلاحي، فقد أعلن بومدين الثورة الزراعية في ربيع عام 1974. وستمس مباشرة قطاع ملاك الاراضي، حيث وقعت منذ بداية عمليات التأميم سلسلة من الاضطرابات المضادة للثورة الزراعية والتي انتشرت في كثير من انحاء البلاد. وطرح بومدين علي نفسه فكرة كيف يمكنه حماية المكتسبات الاشتراكية. وكانت الإجابة تكمن في أن الجيش هو الضامن الاول لتطبيق الاشتراكية في الجزائر حسب الدستور. وكان الغطاء المتبع هو استخدام اسلوب دولة التعبئة الجماهيرية التي اعتمدت اعتمادا كليا علي البيروقراطية.

اشتراكية المخابرات

يجب ملاحظة أن النهج الاشتراكي للرئيس هواري بومدين قد استخدم الاساليب القمعية واعتمد علي جهاز مخابراته الشهير المسمي بـ الامن العسكري أكثر من اعتماده علي جماهير منظمة وواعية ومنتخبة ديمقراطيا، ورغم التزامه بـ طبقة الفلاحين واعتباره المدافع الاول عنها فإن نظامه كان في الحقيقية نظاما يجمع بين سلطته الفردية وسلطة المؤسسة العسكرية التي قمعت كل من عارض مشاريعه الاشتراكية قمعا أمنيا مباشرا. لقد قام الامن العسكري باختراق واسع لكل القطاعات الاقتصادية والاجتماعية وحتي الثقافية في البلاد. وأنشأ لأجل ذلك مكاتب استخبارات ومراقبة داخل كل الشركات والمؤسسات في الجزائر. وكان أعوان الامن المسؤولون عن هذه المكاتب يتمتعون بصلاحيات وسلطات واسعة. فهم يشاركون مثلا في مجالس الادارة، بل يشاركون حتي في المجالس العلمية في الجامعات.
كما يجب ملاحظة أن اشتراكية بومدين كانت اشتراكية (شعبوية) لم تعتمد علي نظريات اشتراكية حقيقية وواضحة المعالم، وحتي الدستور الجزائري الذي نص علي أن الجيش هو الضامن الرئيسي لتطبيق الاشتراكية، لم يجد صدي كبيرا في الواقع حيث لم يكن كل الضباط يؤمنون بالاشتراكية. إن الضامن الوحيد لاستمرار هذا النهج هو بومدين نفسه، وبضعة ضباط عقائديين منحدرين من جيش التحرير الوطني او بعض ضباط جيل الاستقلال الشباب الذين دعموا هذا النهج. ولأجل هذه الاسباب لم يكن من الممكن استمرار هذا التناقض بين دستور اشتراكي وقيادة عسكرية في معظمها غير اشتراكية.
علي الصعيد الايديولوجي الثقافي، لم يتجاهل بومدين ثقافته الاصلية المتشبعة بالروح العربية الاسلامية. وكان ايمانه راسخا بأن إزالة هيمنة اللغة الفرنسية علي الشعب الجزائري هو طريق الاستقلال الوطني الحقيقي، فقام بإعلان حملة تعريب واسعة مست كل الميادين، وكلف زميله في مجلس الثورة محمد صالح اليحياوي بتنفيذ حملة التعريب وأعطاه وزارة التربية والتعليم.

الجيش والعروبة والإسلام

واعتقد بومدين ان الدين الاسلامي مثله مثل اللغة العربية من المكونات الاساسية للشخصية الجزائرية وهويتها. وكان يلح احيانا ويفرض احيانا اخري علي إطارات الدولة استخدام اللغة العربية. وحققت العربية في ظرف 10 سنوات من حكمة نتائج باهرة.
في هذه الفترة، يمكننا وصف ايديولوجيا في اطار شعبوي الي إحداث عملية تصالح بين تراث الماضي ومتطلبات الحداثة والمعاصرة. وكان من السهل الربط بين الاصول الاجتماعية للقائد هواري بومدين وترؤسه للجيش مع الخيارات الاشتراكية الكبري التي اتخذت وطبقت في الجزائر. لكن المشكل الذي سيحدث في المستقبل يكمن في أن أغلبية ضباط الجيش لم تكن لهم علاقات حقيقية بالايديولوجيا الاشتراكية، خاصة ضباط الجيش الفرنسي الذين حافظوا سرا علي نزعة فرنكفونية لغويا وليبرالية اقتصاديا. وحينما سيقوي نفوذهم في الجيش في عهد الشاذلي بن جديد ليصلوا الي قمة القيادة، فإنهم سيشجعون عملية التخلي عن الإرث الاشتراكي البومديني.

ليبرالية بن جديد

توفي الرئيس هواري بومدين يوم 27 كانون الاول (ديسمبر) عام 1978. وتم تعيين العقيد الشاذلي بن جديد خليفة له علي رأس الدولة الجزائرية. وكان هناك بينهما اختلاف عميق في الاسلوب ومنهج الحكم يعود أصلا الي طريقة وصول كل منهما الي السلطة. فبومدين وصل الي السلطة في الجزائر عبر القوة لأنه كان القائد الحقيقي، وبدون منازع للمؤسسة العسكرية. أما الرئيس الشاذلي بن جديد فإن تعيينه رئيسا للدولة حدث لأن الضباط الكبار (لا بد من الإشارة خاصة الي دور قاصدي مرباح قائد جهاز المخابرات الامن العسكري في هذا التعيين، وفرضه لبن جديد رئيسا للدولة) رغبوا في تعيينه ضد المرشحين البارزين آنئذٍ: وزير الخارجية عبد العزيز بوتفليقة ورئيس جبهة التحرير الوطني محمد صالح اليحياوي. وكانت تعلتهم أنهم انتقوا أكبر الضباط سنا وأرفعهم رتبة عسكرية للحكم. وسرعان ما حدثت عمليات تصفيات سياسية وعسكرية علي نطاق واسع استهدفت التيار البومديني وأقطاب الاشتراكية مثل بوتفليقة او يحياوي او ضباط جيش التحرير الوطني، وأصبحت ميزانيات الثكنات تستخدم لمصالح الضباط الشخصية، وبعضها وقع الاستيلاء عليها من قبل بعض الضباط. وأعلن عن بداية إنشاء ثكنات عسكرية في المنطقة الثانية، الثالثة والخامسة منذ بداية الثمانينيات، لكن لم ينجز منها الي حدود عام 1992 سوي 40% وتوقفت لأن الصناديق كانت فارغة، وبعض المجندين الاحتياط كانوا يستخدمون كخدم في شقق كبار الضباط، ولم يتحرك أحد ضد اختلاس أموال الجيش او حتي التنديد بها. وفي الآن نفسه قام الرئيس الجديد الشاذلي بن جديد، تزامنا مع استبعاد الضباط والسياسيين البومدينيين، بانتهاج سياسة تحرير الاقتصاد والحد من المنجزات الاشتراكية والتخلي التدريجي عنها.

عودة الليبراليين

لنذكر أن انتصار تحالف الجيش/ بن بلا عام 1962 مثل انتصارا للاتجاه الاشتراكي ضد (التحالف الليبرالي)، قال عنه الرئيس السابق احمد بن بلا: ان الايديولوجيا الاشتراكية تجيب بشكل عميق علي تطلعاتنا نحو حياة كريمة تسودها العدالة الاجتماعية، كما تجيب علي متطلباتنا في التقدم في كافة الميادين. وقال بعده هواري بومدين: لم نقم بالثورة حتي نصبح خماسة لدي الملاك الجزائريين. (الخماس) في لهجات المغرب العربي هو العامل الفلاحي الذي يستثمر الارض مقابل خمس المحصول. وهي علاقة شبه اقطاعية سادت طويلا في هذه المنطقة. ويمثل تعبير (الخماس) قمة الازدراء والإهانة في النظرة الاجتماعية لهذا القطاع.
لنذكر ايضا ان الليبراليين ردوا الفعل مبكرا ضد تطبيق النهج الاشتراكي، سواء كان الامر في عهد بن بلا او في عهد بومدين. كتب فرحات عباس رئيس أول حكومة مؤقتة للجمهورية الجزائرية قائلا: تعقد الاشتراكية معطي جديدا أضيف لبيان أول تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1954. حيث لم يتعرض الي ذكرها أحد طيلة سنوات حرب التحرير. وأضاف ساخرا: إن سلوك الجمهورية الجزائرية يشبه سلوك امرأة زانية. متزوجة رسميا وعلنا بالاسلام، في حين تنمام سرا في فراش ستالين.
يجب ملاحظة أن هزيمة التيار الليبرالية كانت هزيمة مؤقتة. حيث سيقوم بتنظيم نفسه في عهد الرئيس الجديد الشاذلي بن جديد. وسيستفيد من الظروف الدولية المواتية التي تميزت بانكماش الاتحاد السوفياتي والكتلة الشيوعية وبداية انحطاطهما. وسينجح في معركته الجديدة ضد بقايا الاشتراكيين وسينسج علاقات واسعة ومتينة مع رموز الرأسمالية الدوليين كالبنك العالمي وصندوق النقد الدولي. أصبحت الاشتراكية في أواخر حكم الرئيس الشاذلي بن جديد إرثا ثقيلا من الماضي سيتخلص مه كليا مع الذين تولوا الحكم بعده.

نهاية الاشتراكية

قام الرئيس الشاذلي بن جديد بحملة خصخصة وبيع للقطاع العام بشكل تدريجي في المرحلة الاولي من حكمه ثم بشكل متسارع في أواخر الثمانينيات. وشجعته في مسعاه الجديد طبقة الاثرياء الصاعدة التي استفادت بطرق ملتوية من الريع النفطي ومن احتكار التوريد. أما علي مستوي الجيش فقد نجح بن جديد في استبعاد من تبقي من ضباط جيش التحرير الوطني الذين شاركوا في الثورة والمتميزين باتجاهاتهم العربية الاسلامية والاشتراكية، وتعويضهم بضباط الجيش الفرنسي. كما أبعد القيادات الاشتراكية في جبهة التحرير الوطني مثل مدير الحزب محمد شريف مساعدية ومناضلين آخرين. انتجت هذه المتغيرات الاقتصادية الاجتماعية نتائج وخيمة علي الاقتصاد الجزائري. حيث انهارت العملة الوطنية (الدينار) وتزايد حجم الديون.
وتمزقت الطبقة المتوسطة وتم تفقيرها كما مست الرشوة والفساد قطاعات واسعة في المجتمع والدولة، وهو ما أدي بالبلاد الي أزمة شاملة. تلخص الازمة الاقتصادية عبر الارقام التالية: تزايد حجم فوائد الديون مثلا من 4 مليار دولار عام 1980 الي 5 مليار دولار عام 1986 الي 4،5 مليار عام 1987 الي 5،8 مليار عام 1988. وانتقل حجم الدين الكي من 15 مليار دولار عام 1985 الي 24 مليار دولار عام 1990. وبلغ حجم البطالة حسب الارقام الرسمية 22% من مجموع اليد العاملة، ثبت فشل إمكانية أن تنجح البيروقراطية العسكرية في تطبيق الاشتراكية وإحداث التنمية. إن انحراف العسكر عن دورهم في حماية أمن البلاد وتدخلهم في كل مجالات الحياة وبخاصة المجال الاقتصادي والثقافي لا يؤدي في النهاية إلا الي كارثة محتمة.

لماذا لم تشهد الجبهة الاسلامية للانقاذ في الجزائر زعيما كاريزميا؟ - بين مدني وبن حاج والراحل حشاني

رياض الصيداوي

يجب التنبيه بداية الي اننا نرصد غياب ظاهرة الكاريزما ليس فقط لدي الاسلاميين الجزائريين وانما حتي لدي النظام نفسه الذي لم يشهد ظاهرة الزعيم الكاريزمي. هذا تميز جزائري لم يدرس الي حد اليوم كما يجب. فلماذا لا تبرز زعامات كاريزمية مطلقة في الجزائر مثل غيرها من البلدان العربية والاسلامية؟ فالثورة الاسلامية في ايران كانت تحت قيادة زعيم كاريزمي اوحد. لم ينازع الخميني في قيادته المطلقة احد. بل ان خطبه النارية التي انتشرت عبر اشرطة الكاسيت ساهمت الي حد كبير في عمليات التعبئة الجماهيرية وانجاح الثورة. نفس الشيء ولو بدرجة اقل، مارس زعماء الحركات الدينية في الوطن العربي والعالم الاسلامي قيادة كاريزمية علي انصارهم، تحصلوا من خلالها علي كثير من الصلاحيات، انه يبدو بديهيا القول ان ظاهرة الكاريزما الطبيعية او المصطنعة تبقي الشرعية الوحيدة المتوفرة في الوطن العربي في غياب الشرعية العقلانية شرعية الانتخابات وصناديق الاقتراع فالقائد في الوطن العربي ما زال يحيط نفسه بهالة التقديس ويتصرف بدون محاسبة. والغريب في الامر ان الملاحظة نفسها تنطبق علي احزاب المعارضة العربية التي نادرا ما تغير ما يسمي بقيادتها التاريخية الكاريزمية.

الجزائر الاستثناء

تمثل الجزائر استثناءا في الوطن العربي فكما ان النظام لم يشهد مثله مثل مؤسسته العسكرية زعيما كاريزميا مطلقا، فان الحركة الاسلامية بصفة عامة والجبهة الاسلامية بصفة خاصة تشتتت بين قيادات مختلفة فشلت الجبهة في تجسيد نفسها في خميني جزائري يمكنه تجميع الكل والانفراد بالقرار. اننا نجد في الجزائر حوالي اربع حركات اسلامية، واحدة منها تم حلها اي الجبهة الاسلامية للانقاذ. اما الاخريات فهن حركة حمس بقيادة الشيخ محفوظ نحناح، حركة النهضة بقيادة آدمي وحركة الاصلاح الوطني بقيادة عبد الله جاب الله.
نرصد علي مستوي الجبهة الاسلامية للانقاذ محور مقالنا، تواجد ثلاثة شخصيات مؤثرة تتنازع القيادة، اولها عباسي مدني. ثانيها علي بن حاج ثالثها عبد القادر حشاني ــ رحمه الله ــ. لكل منهم اسلوبه المختلف ونقاط ضعف ونقاط قوة.

الراحل حشاني

يمثل الراحل عبد القادر حشاني التيار الاكثر سياسة واقعية ومن ثمة اعتدالا. يؤمن بالشرعية حتي ولو اكتسبت من داخل النظام نفسه. يعد حداثي ومستعد دائما للتفاوض والموافقة علي الحلول الوسطي. يبلغ من العمر حوالي 40 عاما من مواليد قسنطينة (شرق الجزائر) عمل مهندسا بتروليا في شركة سوناتراك، اكبر مؤسسة اقتصادية عملاقة في البلاد تختص في استغلال النفط، نقله وتصديره. كان ابوه عضوا في المنظمة الخاصة التي شكلت المنبع الاول لقادة جبهة التحرير الوطني. يمثل تيار الجزأرة. تمثلت اهم اعماله في اقناع اعضاء الجبهة وانصارها بضرورة خوض الانتخابات التشريعية بعد ان تم اعتقال الشيخين مدني وبن حاج. فقاد منذ تموز (يوليو) 1992 المكتب التنفيذي للجبهة الذي انبثق من مؤتمر باتنة ثم وقع سجنه في 27 ايلول (سبتمبر) 1991 واطلق سراحه بعد شهر حتي يشرف علي مشاركة الجبهة في الانتخابات. وتم اعتقاله مرة اخري مع رفاقه علي اثر احداث كانون الثاني (يناير) 1992 ورفض في شهر شباط (فبراير) 1994 الخروج من السجن تضامنا مع رفاقه فلم يشارك في ندوة الحوار الوطني الذي نظمته السلطات الجزائرية، واطلق سراحه سنة 1997.

انتصار التيار السلفي

ترك غيابه عن الساحة السياسية بسبب الاعتقال فراغا كبيرا لدي اسلاميي الجبهة نتج عنه انتصار التيار السلفي الاكثر تطرفا والمنادي باستخدام العنف المسلح تحت ذريعة الجهاد. ويبدو ان السلطة ادركت متأخرة انها اخطأت في اعتقاله لانها فتحت الابواب علي مصراعيها امام جيل من الشباب متلهف لاستخدام العنف في اقصي حدوده يبقي حشاني رجل تنظيم وجهاز مستعدا دائما للتفاوض والحوار مما جعله من المفضلين لدي السلط علي عكس علي بن حاج او حتي عباسي مدني الذي لا يرغب في الذهاب بعيدا في خسارة تأييد التيار السلفي يمثل اغتياله خسارة شخصية للرئيس عبد العزيز بوتفليقة ولمشروعه الطموح في الوئام المدني، الذين اغتالوه يمكن ان يكونوا استئصاليين كما يمكن ان يكونوا متطرفين اسلاميين من الجماعة الاسلامية المسلحة.

عباس مدني

يعتقد بعض المحللين ان عباسي مدني يمكنه ان يعد القائد الاول لتنظيم الجبهة الاسلامية للانقاذ، اي اكثر القادة تأثيرا. لا بد من مناقشة هذا الحكم. تعود الاصول السياسية لعباسي مدني الي ما قبل حرب التحرير الوطني 1954 ــ 1962 حينما نشط في حركة انتصار الحريات الديمقراطية بقيادة مصالي الحاج. انضم الي جبهة التحرير الوطني منذ تأسيسها. ولم يسعفه الحظ في عملية الكفاح حيث سجنته السلطات الاستعمارية حتي اعلان الاستقلال سنة 1962. اصطدم مبكرا بسبب افكاره الدينية مع النهج الاشتراكي الذي اتبعه كل من الرئيسين احمد بن بلا (1962 ــ 1965) وهواري بومدين (1965 ــ 1978) انضم الي جمعية القيم التي تأسست سنة 1963. وفي سنة 1966 تم منع هذه الجمعية وحلها لاحقا سنة 1970 وفي شهر تشرين الثاني (نوفمبر) وقع مدني مع اخرين نداءا حررته الحركة الاسلامية ووجهته الي السلطة القائمة انذاك (الشاذلي بن جديد) فوقع سجنه الي حدود سنة 1984. يصفه عمار بلهايمر كنتاج اصيل لجبهة التحرير الوطني حيث كان واحدا من قادتها المحليين المنتخبين اذ انتخب علي رأس المجلس الشعبي بولاية الجزائر في بداية سنوات السبعين. وهو ابن النظام الذي ارسله في تلك الفترة الي بريطانيا لاعداد رسالة دكتوراه في علم التربية مستفيدا من منحة حكومية (...) هو رجل بارد يقدر علي تحقيق نجاح مهني اكثر من تنفيذ مثل عليا. يستطيع التعامل مع كل الاتجاهات التي تخترق الحركة الاسلامية. ورغم صفاته التوفيقية ونزعته نحو التفاوض وايجاد حل وسط فان زعامته هددت في اكثر من مرة.

تهديد الزعامة

اول تهديد جاء سنة 1991 من قبل ثلاثة اعضاء في الجبهة حيث اختلفوا معه وانسحبوا منها متهمينه باحتكار القرار والابتعاد عن الشريعة. وثاني تهديد واجهه اثناء ازمة آذار (مارس) 1992 عندما اتخذت السلطات قرار حل الجبهة الاسلامية للانقاذ فتم تشكيل قيادة جماعية من قبل المكتب التنفيذي الوطني للجبهة وعلي رأسه سبعة اعضاء رئيسيين. تشكلت القيادة الجماعية الجديدة من: عبد القادر حشاني، محمد السعيد، عثمان عيساني، رابح كبير، احمد الزاوي، احمد الناجوري، الشراطي يخلف. نلاحظ ان اغلب القيادة الجديدة جاءت من تيار الجزأرة. ولا بد كذلك من التنبيه الي ان عباسي مدني نفسه الذي حاول لعب دور الوسيط المؤلف بين التناقضات يعد شديد القرب من هذا التيار.
اما اليوم، فان سلطة عباسي مدني تبدو رمزية اكثر منها فعلية. فمن جهة، نجد الجماعة الاسلامية المسلحة ترفض قيادته بل تتهمه بالخيانة والتعامل مع الجيش الجزائري ضدها حينما تتم عمليات التفاوض بينهما. ومن جهة ثانية علي المستوي التنظيمي لا يبدو ان مدني يقود ما تبقي من الجبهة بعد الضربات الامنية التي تلقتها. فقيادتها ممزقة بين كتلتين يقود الاولي رابح كبير من المانيا والكتلة الثانية يقودها انور هدام من امريكا. اما من الناحية العسكرية فان الجيش الاسلامي للانقاذ تصرف باستقلالية كبيرة عن مدني حينما اعلن عن هدنته من جانب واحد في اواخر سنة 1997. فعندما كان مدني يتفاوض مع الرئيس السابق اليامين زروال، قامت المخابرات العسكرية بعقد صفقة مع مدني مزراق امير الجيش الاسلامي للانقاذ مما وضع مدني وزروال في موقف من تجاوزتهما الاحداث. اضافة الي صعوبة الاتصال والتواصل والتشاور مع اعضاء الجبهة المنحلة الذين انتشروا في اماكن كثيرة من العالم.

علي بن حاج

يمثل علي بن حاج قيادة التيار السلفي داخل الجبهة الاسلامية للانقاذ يعد من اشد الراديكاليين المنادين بمفهوم الجهاد. تطلق عليه وسائل الاعلام الاجنبية لقب الرجل الثاني . ولد في تونس سنة 1956. اصله من ولاية ادرار، جنوب الجزائر. تحصل علي ثقافةٍ دينية ودرس اللغة العربية لم يتحصل علي شهادات علمية عليا في الجامعة علي عكس مدني. عمل مدرسا للغة العربية. كان مقربا من الحركة الاسلامية الجزائرية بقيادة مصطفي بويعلي. سجن من سنة 1983 الي سنة 1987. وكان من مؤسسي الجبهة حيث شغل منصب عضو مجلس الشوري. دعا يوم 25 حزيران (يونيو) 1991 الجزائريين الي حمل السلاح ضد الدولة. فتم اعتقاله وسجنه من يوم 30 من نفس الشهر الي اليوم. يتميز بخطابه الشاعري الحماسي غير العقلاني فاصبح من اكبر الخطباء القادرين علي الهاب العواطف وحشد التعبئة. يعود الفضل في اشعاعه السياسي الي قدراته الخطابية الفائقة التي اكتسبها منذ ان كان اماما في مسجد السنة بباب الواد ومسجد بن باديس في القبة. تفوق في امكانية ربط المستمعين بخطبه وانبهارهم بها. لا بد من الاقرار ان كثيرا من قادة الحركات الدينية قد اكتسبوا سلطتهم الكاريزمية من امكاناتهم الخطابية وقدراتهم علي التأثير في الناس بسحر البيان الديني واللعب علي اكثر من مستوي مشاعري سياسي ثوري.. انظر مثال الشيخ كشك في مصر.

روح الجبهة؟

وصفه احدالصحافيين بانه روح الجبهة الاسلامية للانقاذ.. اصبحت انتقاداته العنيفة ضد السلطة مسجلة في ذاكرة الجميع. وبينما هو يعيش في السجن، فان اشرطة الكاسيت التي سجلت له تنتقل بين آلاف الاشخاص مخفية في معاطفهم. تأثيره علي شباب الاحياء الفقيرة لا حدود له وما زال ساري المفعول. وهو علي عكس عباسي مدني، او بخاصة عبد القادر حشاني ليست له اية قدرات ادارية فهو ليس برجل جهاز، ولا رجل تنظيم. سياسته بسيطة تعتمد علي مفهوم التعبئة من خلال التلويح بالجهاد والرفض الدائم والمنهجي لكل ما هو بدعي (تجديد).

فشل في خلق زعيم

يمكننا الاستنتاج ان الجبهة الاسلامية للانقاذ فشلت في خلق زعيم كاريزمي خاص بها يشابه زعامة الخميني مثلا. فالسلطة السياسية في الجزائر بشكل عام ومهما كان اتجاهها كانت دائمة العجز في ان تتشخص وتخلق عصبية تدور حول فرد بعينه. ان صعوبة ايجاد زعامة كاريزمية في هذا البلد يمكن تفسيرها بعدة اسباب. نعتقد ان السبب الرئيس يكمن في الثقافة السياسية التي اكتسبها هذا البلد اثناء تجربته في الكفاح الوطني وحرب التحرير. لقد اكتسب ثقافة عدم تأليه الافراد. فقد كان الشعار المركزي لقادة جبهة التحرير الوطني اثناء حرب التحرير لا يوجد الا زعيم واحد: وهو الشعب . ومنذ تلك الفترة فشل الساسة الجزائريون في انتاج الزعامات سواء تعلق الامر بالحكم او بالمعارضة. انظر كم رئيسا جزائريا تم خلعه او استبعاده او حتي اغتياله. باستثناء بومدين، نجد ان جميع الرؤساء الجزائريين ازيحوا بطريقة ما من الحكم. والطريف في الامر ان ازاحتهم لم تتم من قبل المعارضة ولكن من داخل النظام نفسه يمكننا ايضا الانتباه الي دور الاستعمار الفرنسي الذي قضي علي السلط التقليدية مثل سلطة الداي واعوانه. وقام بحكم البلد مباشرة من خلال اجهزته ومفوضيه فانعدمت الزعامات التقليدية وانعدمت معها فكرة الزعيم.

توزع السلطة

لقد كانت السلطة في هذا البلد بجميع اشكالها موزعة علي تكتلات افراد او جهات.. ولكن لم تكن ابدا ممركزة في يد واحدة. صدق من قال ان الجبهة الاسلامية للانقاذ هي في نهاية المطاف امتداد لجبهة التحرير الوطني ورثت منها الكثير من المحاسن كما ورثت منها ايضا الكثير من العيوب.
الحركة الاسلامية في الجزائر لها صفات مشتركة مع بقية الحركات الاسلامية في الوطن العربي كل هذه الحركات تتميز بشعبويتها وقدراتها التعبوية علي اختراق كافة الشرائح الاجتماعية والاقتصادية والطبقية دون تمييز. فهي ليست صوتا طبقيا معينا اذ تتيح للجميع امكانية الاندماج في ما يتعلق بالقيادة الكاريزمية وامكانية قبولها بزعماء مطلقي النفوذ، بزعماء انصاف آلهة وذلك يعود الي طبيعة الثقافة السياسية لدي الشعب الجزائري. هذه الثقافة المخضبة بدماء حرب التحرير تمنع الكاريزما وكانت دائمة الايمان بان لا زعيم الا الشعب. غاب عبد القادر حشاني، الرجل الثالث في الجبهة وصاحب النزعة العقلانية البرغماتية، وبقيت الانقاذ بين زعامة علي بن حاج الشاعري الحالم وعباس مدني رجل التوازنات السياسية.

لماذا تخلفت جمعية العلماء المسلمين وبقية الأحزاب عن مساندة ثورة الفاتح من نوفمبر 1954؟


موقف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من ثورة الفاتح من نوفمبر عام 1954 لم يكن موقفا شجاعا في بدايته. كان متخاذلا ضد ثوار نوفمبر، مثله مثل موقف الحزب الشيوعي الجزائري، أو موقف عباس فرحات أو حتي مصالي الحاج الذي حارب الثورة منذ اندلاعها. وعلي الرغم من أن كتابة تاريخ الجزائر الثوري يعد إشكالا حيث يتداخل فيه العلم (التاريخ) مع الأيديولوجيا (السياسة) وحيث تتباين الرؤي بين تيارين ثوريين متصارعين داخل جبهة التحرير الوطني نفسها، أي التيار العربي الإسلامي والتيار الشيوعي اللائكي..فإن المواقف الأولي للقوي السياسية الجزائرية في مواجهة الثورة يمكن تحديدها وتوثيقها علميا دون انحياز أو مراوغة. هذا المقال يتناول موقف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وبقية الأحزاب السياسية الجزائرية من الثورة في أيامها الأولي.

لقد نص بيان أول نوفمبر 1954 علي أن جبهة التحرير الوطني تتيح الفرصة لجميع المواطنين الجزائريين من جميع الطبقات الاجتماعية، وجميع الأحزاب والحركات الجزائرية لتنضم إلي الكفاح التحريري من دون أي اعتبار آخر... ومن ثمة فقد فتح باب إمكانية انضمام الأحزاب الأخري التي تشكل الحركة الوطنية الجزائرية، إلي الجبهة وتدعيم صفوفها.

انطلق عبان رمضان من هذا المبدإ، ليقوم بسلسلة من المفاوضات مع كل من: الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري، جمعية العلماء المسلمين، المركزيين، الحزب الشيوعي الجزائري، الحركة الوطنية الجزائرية (المصاليون). وذلك بهدف اندماجهم في الجبهة، فكانت النتيجة أن ظل موقف جمعية العلماء متحفظا إزاء جبهة التحرير، وتميز موقف أحد قادتها، الشيخ العربي التبسي، بمساندته للجبهة وفهمه بأن النضال في الاطار القانوني، يعد من الماضي، فتم اغتياله علي يد السلطات الفرنسية، وفي سنة 1956 انضم الكثير من مناضلي الجمعية إلي الجبهة كأفرادا، كبقية التنظيمات، مثل محمد شعباني، احمد طالب الابراهيمي، عامر ملاح، ومحمد صالح اليحياوي.
يقول علي كافي في مذكراته عن موقف جمعية العلماء من الثورة "مثل بقية الحركات الوطنية الأخري، لم تكن قيادة الجمعية في الصورة يوم الانطلاقة وهي أيضا كانت تعاني أزمة صراع. فرئيسها الشيخ البشير الإبراهيمي كان في القاهرة ومصداقية نائبه الأول الرسمي ــ الشيخ العربي التبسي ــ كانت في الميزان. والحقيقة الموضوعية تؤكد بأن الشيخ العربي التبسي كان بأفكاره وتوجهاته وقناعاته أقرب إلي هضم الثورة وضرورة الإسراع في تأييدها. وهي أيضا سبقها مناضلوها حيث التحق بعض منهم بالثورة قبل 1956.

لم تصفق للثورة

وهي أيضا لم تصفق للثورة، بل حاول بعض قادتها التحالف مع مصالي، عدوهم الألد، بغية تأسيس التجمع الشعبي الجزائري وكان الاتفاق بينهم علي أن تحل أحزابهم بما في ذلك البيان. وهكذا بقي الجميع خاصة المصاليون والمركزيون يتسابقون علي كسب الحياديين.

إن تاريخ جمعية العلماء مرتبط شديد الارتباط بالشيخ عبد الحميد بن باديس. لقد بدأ اتصالاته وتحركاته ودعوته إلي إنشاء أخوة ثقافية يكون هدفها العمل علي جعل جهودهم في مجال التعليم العربي منسجمة وتوحيد مذهبهم الديني. وفي نوفمبر 1925 وجه عبد الحميد نداءه علي صفحات مجلة الشهاب إلي المثقفين الإصلاحيين الذي يهدف في أعماقه إلي تأسيس جمعية العلماء وبالفعل انعقدت الجمعية القانونية (42) عضوا بمقر نادي الترقي بعاصمة الجزائر في 5 مايو 1931، وصادقت الجمعية علي القانون الأساس وكان هدف الجمعية الإصلاح الديني ونشر التعليم العربي وفتح مدارس حرة .
وجاء في المادة الثالثة لا يسوغ لهذه الجمعية بأي حال من الأحوال أن تخوض أو تتدخل في المسائل السياسية .

يعلق علي كافي علي مطالب الجمعية قائلا : وفي شهر ايلول (سبتمبر) 1935 عقدت الجمعية مؤتمرها، وكانت مطالبها متشابهة مع التنظيمات الأخري، حيث كانت تبحث عن عمل مشترك علي أساس برنامج الحد الأدني الضروري. ويرجع الفضل إلي الشيخ عبد الحميد بن باديس في التعبير عن هذه الطموحات التي طرحها في مقال نشرته جريدة "الدفاع"، اللسان المركزي للجمعية، وذلك بتاريخ 3/1/1936، فكان هو أول من دعا إلي عقد مؤتمر إسلامي جزائري لضبط ميثاق سياسي للمسلمين الجزائريين . كانت الجمعية تؤيد البحث عن حل سلمي ومخرج للقضية الوطنية من دون تطبيقه مع إطار التأسيس الشرعية الفرنسية . ولكن هذه المساعي عرقلها فرحات عباس بمقاله الافتتاحي الشهير في جريدة الوفاق الفرنسي ــ الإسلامي لسان حال اتحادية المنتخبين المسلمين لعمالة قسنطينة، أكد فيه موقفه السياسي الداعي إلي الاندماج، وكانت الافتتاحية بعنوان فرنسا هي أنا .
وكانت لهذه الافتتاحية ردود فعل عنيفة من طرف جمعية العلماء خاصة المقال الصريح الواضح الذي نشر في جريدة الشهاب في نيسان (أبريل) عام 1936، حيث عبر عن رفضه الصارم لمقال فرحات عباس، مدافعا بقوة من اجل الاعتراف بالشخصية الجزائرية.
وفي 14 كانون الثاني (يناير) عام 1938، نشرت جريدة البصائر فتوي للشيخ عبد الحميد بن باديس ضد التجنس وهي نفسها التي كان قد أعلنها في 10 آب (اغسطس) 1937.
واشتهر بقوله والله لو طلبت مني فرنسا أن أقول لا إلاه إلا الله لما قلتها .

مطالب الجمعية

ومن مطالب الجمعية حرية الدين الإسلامي وحرية مساجده وحرية مؤسساته الخيرية وحرية تعليم اللغة العربية كلغة وطنية ولغة ممارسة الشعائر الدينية في الوقت نفسه وحرية القضاء الإسلامي . غير أن الحكومة لم تفتأ تتجاهل كل هذه المطالب لغاية 1947، وهو التاريخ الذي صادق فيه البرلمان الفرنسي علي القانون الأساس للجزائر (قانون 47 ــ 1953) المؤرخ في 20 أيلول (سبتمبر) 1947، الذي تمخض عنه ميلاد مجلسكم هذا. ... وإنه لمن المتعذر تفسير الدواعي التي حدت بالحكومة الفرنسية وهي حكومة علمانية ــ والعلمانية تمنع التدخل في شؤون الدين الإسلامي، وهو الدين الوحيد الذي تتدخل في شؤونه الإدارة الجزائرية .
وفي يوم 21 تموز (يوليو) عقدت جمعية العلماء مؤتمرها التاسع حيث تمت المصادقة علي قانون سياسي جديد والمصادقة علي لائحة تتعلق بالوظيفة الثقافية والدينية وأكد المؤتمر الطابع الخاص للجمعية بأنها لا تعتزم القيام بعمل سياسي تقليدي.

من الضروري التأكيد مجددا علي أن موقف الحذر والريبة الذي اتخذته الجمعية ضد الثورة لم تنفرد به. فقد أجمعت القوي السياسية المتواجدة علي الساحة علي عدم تزكية الثورة في بدايتها. بل ونقدها واعتبارها مغامرة عسكرية منعزلة وفاشلة. يشترك في هذا الموقف كل من فرحات عباس والحزب الشيوعي والمركزيون ومصالي الحاج.

فرحات عباس

كان فرحات عباس يعتبر الكفاح المسلح يأسا وفوضي ومغامرة ، وكان ينتظر الكثير من مانديس فرانس Mandڈs France، لكنه لم يكن يستطيع تجاهل وجود منظور آخر، بفضل جبهة التحـرير الوطـني، فتـوصل أخـيرا إلـي قنـاعة أنـه إذا استسـلمت الأوليغاركات المالية ، إذا تكشف عجزها، لن يبقي أمام الجزائريين غير الذهاب إلي السجن أو الالتحاق بالأدغال. أعلن فرحات عباس، زعيم الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري في القاهرة، في 22 نيسان (أبريل) 1956 انضمامه رسميا إلي جبهة التحرير الوطني ومعه بقية مناضلي حزبه. وعد ذلك تحولا جذريا في موافقه.
يعلق علي كافي علي مواقفه .. وهو أيضا فوجئ بالانطلاقة. وعلي الرغم من المبررات المستقبلية، فقد اتخذ فرحات عباس موقفا واضحا منذ البداية حيث كتب في صحيفة الجمهورية العدد 46 بتاريخ 12 تشرين الثاني (نوفمبر) 1954،: ... إن موقفنا واضح ومن دون أي التباس. إننا سنبقي مقتنعين بأن العنف لا يساوي شيئا . لقد استمر علي موقفه ومبادئ حزبه وهو التعلق بالشرعية وإدانة العنف والمناورة للحصول علي تنازلات من فرنسا وكان مستعدا لقبول قانون 1947، وبقي في هذا الحلم إلي أن فشلت كل محاولاته فركب القطار في 1956، بعد أن حل الحزب والتحق رئيسه وكثير من إطاراته بجبهة التحرير الوطني.
وبقيت قيادة البيان تلعب علي حبلين بأمل أن تجهض الانطلاقة فتبدو أمام الطرف الفرنسي بأنها الجناح الأسلم والأجدر بالمفاوض الكفء لغاية سنة 1956، حيث التحقت بجبهة التحرير الوطني، مع العلم أن كثيرا من مناضلي البيان التحقوا بصفوف الثورة قبل ذلك التاريخ .
كما اعتبر المركزيون العمليات العسكرية في أول نوفمبر مغامرة وتنبأوا بانتكاسة للحركة الوطنية، لكن سرعان ما غيروا مواقفهم وانضموا إلي الجبهة ووصلوا إلي مواقع قيادية فيها، مثل بن يوسف بن خدة، سعد دحلب، تمام، عيسات يدير...

اعتراض الحزب الشيوعي

واعترض الحزب الشيوعي الجزائري علي ادعاء جبهة التحرير الوطني التحدث باسم الأمة جمعاء، وذلك باسم تمثيله الطبقة العاملة، وأسس في آذار (مارس) 1956 منظمة عسكرية خاصة به، سميت مقاتلو التحرير فشلت، فتـم دمـج مقاتليها أو ما تبقـي منهم في جيش التحرير الوطني في تموز (يوليو) 1956، كأفراد وليس كحزب.
يعتبر علي كافي الحزب الشيوعي الجزائري حزبا "مرتبطا بالحزب الشيوعي الفرنسي ويتكون من أوروبيين وجزائريين. وهو أيضا كان بعيدا عن المطامح الحقيقية للشعب (الاستقلال بواسطة السلاح). كانت مواقفه مذبذبة، وعلي الرغم من تصريحاته وبياناته ولوائح مؤتمراته، فقد كان أقرب إلي القوي البرجوازية منه إلي الجماهير الشعبية. ومن أخطائه الفادحة والتاريخية -التي لا تغتفر لحزب يريد أن يكون تقدميا ــ أنه أيد في 1936، مشروع بلوم فيولات الهادف إلي منح بعض الإصلاحات والمواطنة الفرنسية للنخبة فقط..أثناء حوادث 8 مايو 1945 دعا إلي قمع الانتفاضة الوطنية الشعبية. في النداء الذي وجهه تحت عنوان من أجل جبهة وطنية ديموقراطية جزائرية" جاء فيه علي الخصوص إن اتحاد الجزائريين مع الأمة الفرنسية الكبري هو الشرط الأساس لنيل المزيد من الحرية والديمقراطية . بقي هذا شعارا له حتي سنة 1954، ولم يغير موقفه من الكفاح المسلح إلا بعد أن راجع كل من المركزيين والاتحاد الديمقراطي موقفهما من الشرعية الاستعمارية . وكان ميالا إلي المطالبة بالإصلاحات والتنديد بالقمع ورفع مستوي المعيشة، دائما في إطار الشرعية والتواجد الاستعماري وإن كان بعض قادته يزعمون بأن الكفاح المسلح كان واردا في برنامجهم السياسي. كما كان الحزب الشيوعي الجزائري ينظر إلي أول نوفمبر 1954 علي أنه عملية استفزازية ليس بعيدا أن يكون مصيره ما حدث في 8 مايو 1945، وبالتالي كان يدعو إلي اليقظة المطلقة وبعبارة أخري الحذر من أول نوفمبر .

موقف المصاليين

وأعطي المصاليون في كانون الأول (ديسمبر) 1954 تسمية جديدة لمنظمتهم فحلت الحركة الوطنية الجزائرية محل حركة انتصار الحريات الديمقراطية وعلي عكس بقية التنظيمات التي اندمجت في جبهة التحرير الوطني، اختاروا الدخول في حرب دامية ضدها، سقط فيها عشرات الاف من القتلي من الجانبين، حتي استقلال الجزائر سنة 1962.
أدت هذه التطورات السياسية الي تغيير في حجم وتركيبة جبهة التحرير الوطني. فلم تعد منذ سنة 1956، حكرا علي مناضلي المنظمة الخاصة، ذوي التكوين العسكري، والمتشيعين للعمل الحربي علي حساب أي عمل آخر.

كيف يمكننا تفسير هذه المواقف السلبية من قبل جمعية العلماء المسلمين وبقية الأحزاب الجزائرية تجاه مفجري ثورة نوفمبر 1954؟

يعود السبب الأساسي في الواقع إلي طبيعة النواة الأولي لثوار أول نوفمبر. فقيادتهم تشكلت من قيادات الصف الثاني، أو حتي الثالث في الحركة الوطنية الجزائرية، المتميزين بعدم احترافهم السياسي، وبصغر سنهم، وانتمائهم إلي الطبقات الأكثر فقرا في المجتمع الجزائري، فهم لم يكونوا قيادات تقليدية وكانوا غير معروفين علي الساحة. كان ينظر إليهم كمغامرين عسكريين قليلي العدد منعزلين عن الأحزاب وبالتالي عن الجماهير.. وكان الاعتقاد أن السلطات الاستعمارية ستنهي مغامرتهم بسرعة. لكن المفاجأة تمثلت في صمودهم البطولي واستمرار حركتهم ووقوف القاهرة إلي جانبهم بكل ما تملك من قوة. والأكثر من ذلك تبني الريف الجزائري لهذه الثورة. وانتماء الفلاحين لها الذين شكلوا فرقها الصدامية الأولي. كان هناك عزم لا يلين علي الانتصار. وكان شعارها المركزي انتهي عهد السياسة والمفاوضات، فالحرية لا تعطي وإنما تنتزع بقوة السلاح. استمر هذا الحال حتي سنة 1956 حينما قررت جميع القوي السياسية الجزائرية بمن فيها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وباستثناء مصالي الحاج، الانضمام إلي الثورة وبالتالي الانضمام إلي جبهة التحرير الوطني التي ضمت جنبا إلي جنب الإسلاميين والشيوعيين، الليبيراليين والاشتراكيين، الفرنكفونيين والعروبيين. جمعت كل التناقضات من أجل استقلال الجزائر.

ومنذ ذلك الحين رصدنا توازنا جديدا، أصبح يحل محل هيمنة رجال جيش التحرير الوطني، ومعطيات جديدة بدأت تتفاعل داخل الجبهة. حيث اختلف الوضع بعد انضمام سياسيين محترفين، أكثر تجربة في القيادة، ومنحدرين من طبقات أكثر رفاهية إلي جبهة التحرير الوطني.