عجز القادة الجزائريون، عسكريين كانوا أو سياسيين، إلى حد اليوم عن استئصال العنف الإسلامي المسلح الخارج عن الدولة. سؤالان يطرحان نفسيهما. أولا، أين يكمن هذا العجز؟ ثانيا، ما هي الأسباب الموضوعية التي أدت إلى هذا العجز؟
1- مراحل العجز
كيف ظهر هذا العجز لدى النظام الجزائري؟ الإجابة الأولى تكمن في مساعيه لأكثر من مرة في الحوار مع قادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ من أجل ما سماه بمصالحة وطنية. لقد قام، قبل وصول الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، بثلاثة مبادرات كبرى تجاه الحزب المنحل في سبيل إيجاد حل سلمي.
أبرز عالم الاجتماع الجزائري لهواري عدي ظاهرة سعي السلطات من أجل الحوار على أساس أنها غير قادرة على إحلال السلم المدني. حيث دارت أول محاولة للحوار مبكرا تحديدا في شتاء سنتي 1993-1994.[1] كان هدف هذه المحاولة تشكيل تحالفا حكوميا كبيرايضم كل التشكيلات السياسية بما فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ. ولم يشترط النظام العسكري إلا شرطين. التنديد بالعنف الحاصل والكفاح ضد الإرهاب من جهة وضرورة أن يكون تعيين رئيس الدولة من صلاحيات الجيش وحده[2]. والأكثر من ذلك أعربت السلطات عن استعدادها لإعطاء مجموعة من الوزارات لإسلاميي الإنقاذ، باستثناء وزارات السيادة، أي الدفاع، الداخلية والخارجية[3]. وفي المقابل رفضت الجبهة الإسلامية للإنقاذ هذه العروض معتقدة أن الزمن يعمل لصالحها وأن انتصارها محتوم لا محالة إن آجلا أو عاجلا.
كما بينت المحاولة الثانية للسلطات الجزائرية في سبيل إجراء حوار مع الحزب المنحل مدى شعورها بالعجز تجاه تفاقم العنف وخروجه من سيطرتها. فبعد أن عين اليامين زروال رئيسا للدولة على إثر الندوة الوطنية التي عقدت أيام 23 إلى 26 يناير/كانون الثاني 1994. قام بأول مسعى من أجل المصالحة في صيف 1994. فوضع عباسي مدني وعلي بن حاج تحت الإقامة الجبرية بعد أن تم إخراجهما من السجن. وأجرى محادثات مكثفة معها. لكن فشل المسعى مرة أخرى في أواخر شهر أكتوبر/تشرين الأول من نفس السنة بعد تعنت علي بن حاج ودعوته المستمرة للعنف الذي وصفه بالجهاد. شرح الرئيس اليامين زروال سبب الفشل في خطاب له للتلفزيون الجزائري ذكر فيه أن الإسلاميين لم يكونوا مستعدين للعودة إلى السلم، وأن الدولة عازمة من هنا فصاعدا على استئصالهم[4].
أما محاولة الحوار الثالثة، والتي دلت على عجز السلطات الجزائرية، فقد تمت في شهر حزيران / يونيو 1995. تحدثت الصحافة المحلية في هذه الفترة عن إمكانية الوصول إلى اتفاق قريب بين رئاسة الجمهورية وقيادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ. وجرت محادثات سرية بين الطرفين. ولكن مرة أخرى تفشل المحاولة بعد أن أدلت رئاسة الجمهورية ببيان أفادت فيه بفشل المفاوضات وحملت الإسلاميين مسؤولية هذا الفشل[5].
لم يتصور العسكريون في حقيقة الأمر أبدا إمكانية أن يمتد العنف بهذا الحجم وبهذا الزمن. ولم يخطر على بالهم أن تدخلهم سيؤدي إلى "حرب أهلية" طويلة الأمد. كانوا ينتظرون "بضعة اضطرابات لدى الشارع الجزائري تمتد لبضعة أشهر وتخرج من المساجد، وتنتهي بالتلاشي أمام عملية قمع وتحييد الكوادر الأكثر الخطورة"[6]. ويشرح لهواري عدي إستراتيجية العسكريين في محاولتهم تحييد ومن ثمة استئصال مناضلي الجبهة الإسلامية للإنقاذ من خلال القوة، فيذكر أنهم اعتمدوا في الآن نفسه أيضا على إستراتيجية موازية هدفت إلى "استئناسهم ثم تشريكهم في الحكم"[7]. ويستنتج أن ما حدث يعبر عن تناقض شديد لدى العسكريين. "فمن جهة يريدون إنهاءهم من خلال عمليات قمع كثيف، ومن جهة أخرى يتحاورون معهم من أجل التوصل إلى حل وسط تكون فيه السلطة الحقيقية بيد العسكر"[8].
لقد تمثلت خطة العسكريين في الواقع ومنذ بداية أزمة 1992 في عزل قيادة الإنقاذ عن قاعدتها الشعبية. وحتى تحقق هذا الهدف قاموا باعتقال للقادة والكوادر الوسطى ووضعهم في السجن، أو الإلقاء بأغلبهم في معتقلات جماعية في جنوب الصحراء. وشجعوا في الوقت نفسه بعض نشطي وقادة الإنقاذ على التمرد على الجبهة والانسحاب منها والالتحاق بصفوف السلطة. لكن هذه الخطة لم تنجح، بل أدت إلى فشل ذريع خاصة في الفترة الممتدة بين 1992 و1994. هذا الفشل، حسب لهواري عدي، جاء نتيجة لحسابات خاطئة قام بها العسكريون الذين لم يعطوا الأهمية اللازمة لثلاثة عوامل رئيسية وهي "أولا : عدم شعبية النظام ومساندة قسم من الشعب للجبهة الإسلامية للإنقاذ، ثانيا: التأثير المباشر الذي أحدثه إيقاف الانتخابات كصاعق أدى إلى الانفجار لدى شباب كبت لمدة طويلة تطلعه لاستخدام السلاح. ثالثا: التضامن العائلي أو الجهوي إضافة للمدى الذي وصلت إليه عمليات القمع التي دارت خارج إطار القانون وحقوق الإنسان"[9].
2- أسباب العجز
يتساءل الباحث الفرنسي إيف لاكوست Yves Lacoste : لماذا فشلالعسكر إذن في إنهاء ظاهرة العنف الإسلامي المسلح بعد أكثر من سبع سنوات من القتال ورغم أن الدولة الجزائرية امتلكت منذ الاستقلال جهازا أمنيا شديد الصلابة والفاعلية على رأسه ما يعرف بالأمن العسكري؟[10]
توجد الإجابة في كثير من العوامل، سنحاول تقسيمها إلى نوعين: عوامل ذاتية وأخرى موضوعية.
أ-العوامل الذاتية
يمكننا حصر العوامل الذاتية في:
1-ثقافة الكفاح التي اكتسبها الجزائريون أثناء حرب التحرير الوطني (1954-1962) وتميزت بتمجيد البطولة وتثمين مفهوم الشهادة و"الصعود إلى الجبل" احتجاجا على جور المستعمر وظلمه. لجأ إسلاميو الإنقاذ إلى هذا المخزون الجماعي الحي في ذاكرة الجزائريين ليعيدوا إحياؤه لدى مجموعة من الناس مستخدمين خطابا تعبويا يطابق بين المستعمر بالأمس وقادة الجيش اليوم الذين يوصفون ب"حزب فرنسا".
2-التأثير المباشر لما يشبه أممية إسلامية، وخاصة التأثير المعنوي الذي لعبه كل من انتصار الثورة الإيرانية ستة 1979 وإخراج المجاهدين الأفغان للمحتل الروسي من أرضهم..كل هذه العوامل أدت إلى إحداث شعور عام بقرب نهضة إسلامية كبرى تشمل العالم كله وتعيد مجد الإسلام والمسلمين، وبالتالي على الجزائريين أن يؤدوا دورهم في معركة الجهاد الكبرى هذه.
ب-العوامل الموضوعية
ترتبط العوامل الموضوعية بالعوامل الذاتية السابقة ارتباطا وثيقا. فبعضها في علاقة مع طبيعة النظام الجزائري المنقسم على نفسه بين أجنحة شديدة الصراع حول الاختيارات الكبرى. وبعضها الآخر متعلق بطبيعة أرض المعركة وتضاريسها الوعرة.
1-إن مساحة التراب الجزائري شديدة الاتساع فهي تبلغ تحديدا ( 2 376 400 كم2 ). ويتميز الشمال بجباله الكثيرة الوعرة التي تمتد من الحدود التونسية شرقا إلى الحدود المغربية غربا. أما الوسط فهو شبه جاف، في حين أن الجنوب صحراوي. لابد من الانتباه أن كل العمليات العسكرية التي حدثت وتحدث في الجزائر تمتد على امتداد سلسلة الجبال الشمالية ومن ثمة نفهم السهولة التي ينتقل بها المقاتلون من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق مرورا بالوسط دون أن يخرجوا من حماية هذه الجبال. لقد كانت نفس الإستراتيجية التي اتبعها جيش التحرير الوطني أثناء حرب التحرير ونجحت ضد الاحتلال الفرنسي. لنذكر أن فرنسا وظفت حوالي نصف مليون جندي وضابط بغاية القضاء على بضعة آلاف من المجاهدين مستخدمة كل ترسانتها من الأسلحة... ورغم ذلك عجزت في تحقيق أهدافها وإنهاء الثورة المسلحة، فما بالك بالجيش الوطني الشعبي الجزائريالذي لا يتعدى اليوم120ألف مقاتل. فصعوبة ميدان المعركة جعل من إمكانية خروج ثوار على النظام وعلى الدولة مسألة ممكنة توفرها الأدغال والغابات والجبال[11].
2-وجد الجيش الجزائري صعوبة كبيرة، خاصة في بداية الأزمة، في التكيف مع حرب العصابات التي فرضت عليه. فهو جيش تقليدي بطبيعته يعتمد على العقيدة الروسية في القتال أي الهجوم الجبهوي المدرع بمساندة الطائرات, وحينما وجد نفسه أمام أسلوب قتال جديد استلزمه كثير من الوقت حتى يتكيف مع حرب العصابات الخاطفة. فأعاد تدريب قواته الخاصة على مثل هذه الحروب كما أعاد ترتيب قيادته الميدانية بإعطاء صلاحيات أكثر للضباط المشاركين في القتال دون الرجوع إلى قيادة الأركان المركزية في وزارة الدفاع. مما جعله يحقق بعض النجاحات الهامة ابتداء من سنة 1995.
3-اشتداد الردع وضعف "الإنقاذ"
يرى المفكر الأمريكي شارلز تيلي Charles Tilly بوجود أشكال كثيرة من الردع والقمع التي يمكن للسلطات الحاكمة انتهاجها في سبيل القضاء على تعبئة المعارضة. فالنظام القائم يمكنه مثلا زرع الاضطرابات داخل التنظيم المعارض. كما يمكنه منع المعارضة من الوصول إلى أية مصادر دعم بشري أو مادي مثل التمويل والمساعدات المالية التي تتلقاها. وأخيرا يمكن للنظام أن يستخدم القمع المباشر والشامل ليحطم قوة المعارضة[12]. وفي الحالة الجزائرية جرى استخدام الوسائل الثلاثة معا.
منذ وصول الرئيس اليامين زروال إلى السلطة وترؤسه الدولة الجزائرية، برزت على السطح ظاهرتان جديدتان لصالح النظام. فقد تم أولا تدعيم مؤسسة الدولة التي ازدادت صلابة بعد الخروج من أزمة الفراغ الدستوري الذي عاشته البلاد تحت حكم المجلس الأعلى للدولة. إذ عادت مؤسسة الرئاسة كما كانت من قبل (طبعا من الناحية الدستورية لأنها عملية أصبحت ضعيفة أمام سيطرة قيادة الجيش). وتطورت ثانيا قدرات الجيش الجزائري في حربه مع التنظيمات الإسلامية المسلحة. وفي المقابل شهدت الجبهة الإسلامية للإنقاذ ضعفا شديدا سواء على المستوى السياسي أو المستوى العسكري.هذان العاملان تسببا في إضعاف "الوضعية الثورية" التي سادت من قبل لصالح "الإنقاذ". أما الآن فهي في طريقها للتلاشي النهائي. لقد حقق الجيش انتصارات كثيرة على الأرض.
أ- نجاح الردع العسكري
انتصر الجيش الجزائري عمليا في كثير من المعارك منذ سنة 1995. حيث قام بعمليات عسكرية كثيرة ناجحة خاصة في مواجهة الجماعة الإسلامية المسلحة. فتمكن من ضرب كثيرا من قواعدها، قتل كثيرا من قادتها والأهم من ذلك تمكن مناختراقها وتمزيقها إلى مجموعات صغيرة متقاتلة فيما بينها. وفي الآن نفسه توصل إلى إقناع الجيش الإسلامي للإنقاذ بعقد هدنة من جانب واحد في أواخر سنة 1997 انتهت باستسلام عناصره لقوات الأمن الجزائرية، بل ومساعدتها في قتال الجماعة الإسلامية المسلحة والدخول في مشروع مصالحة واسع سمي ب"الوئام المدني" لقي مباركة واسعة من قبل الشعب الجزائري بعد استفتاء دار حوله.
ولا بد من التدقيق في أن الجيش الجزائري اليوم يعد تقريبا بين 150 ألف و180 ألف جندي وضابط. وهو قادر على مضاعفة حجمه إما بتمديد مدة العاملين فيه من الاحتياطأو حتى تعبئةمن كان منهم خارجه ويعيش حياة مدنية، وهو ما حدث مثلا أثناء انتخابات 1997 [13].إضافة إلى ذلك نجد حوالي 60 ألف رجلا يمثلون القوى الخاصة المكلفة بملاحقة الإسلاميين وقتالهم، حيث وقع انتقائهم من الرجال النخبة لدى قوات الشرطةوالدرك والجيش[14].
أما في ما يتعلق بعدم نجاعة الجيش في سنوات 1992-1995 فذلك يعود إلى السبب التالي: يعد الجيش الجزائري جيشا تقليديا يعتمد العقيدة العسكرية الروسية. وتلقى تدريباته وتكوينه المستمر على أساس أن المملكة المغربية هي الخطر الدائم الذي يهدد حدوده. ذلك أن "حرب الرمال" مازالت عالقة في الأذهان حينما اشتبك الجيش الجزائري الفتي سنة 1963 مع القوات الملكية المغربية وخسر كثيرا من جنوده وضباطه، وزاد التوتر حدة بالغلق الشبه الدائم للحدود بين البلدين ودعم الجزائر لجيش "البوليزاريو" وتوفيرها للقواعد والسلاح والتدريبات اللازمة حتى تشن غارات خاطفة على المغرب. لكن الوضع اختلف منذ سنة 1992 كلية. فهذا الجيش التقليدي وجد نفسه يخوض حربا غير تقليدية داخل أرضه وعلى امتداد جباله وأدغاله. وجد نفسه في مواجهة مقاتلين خفيفي التسليح ويتقنون الكر والفر والاختباء في الأدغال والغابات. ويعرفون تمام المعرفة بطبيعة الأرض التي يقاتلون عليها. وهو ما يفسر الخسائر الكبيرة التي حصلت في صفوفه في الفترة 1992-1995، والناتجة عن تردده وبطئ تنفيذ الأوامر بسبب المركزية الشديدة للقيادة في وزارة الدفاع. لكن سرعان ما جرت تغييرات أدت إلى تكيفه التدريجي مع الحرب الجديدة بعدما أعاد تنظيم القيادة العسكرية العاملة في ساحة المعركة فاكتسبت مرونة التحرك. وتشكلت القوات الخاصة من أفرع عديدة من الجيش وبقية الأجهزة الأمنية لتصبح تحت قيادة واحدة يمثلها اللواء محمد العماري[15]. ومنذ سنة 1995 أصبحت الإستراتيجية العامة للجيش الجزائري تعتمد على عنصرين متكاملين. في البداية يقوم بعملية مؤقتة وواسعة يستخدم فيها كل أسلحته الثقيلة، ثم ينسحب من الميدان ويترك مهمة حفظ الأمن اليومي لجماعات جديدة شكلها لهذا الغرض. تسمى "الحرس البلدي" و"قوات الدفاع الذاتي". ومن هنا فصاعدا، ستصبح هذه القوات محددة في الصراع حيث ستقوم بمراقبة كامل البلاد والتضييق على نشاط الإسلاميين المسلحين.
بالنسبة إلى الحرس البلدي، فقد انتقل عددهم من 15 ألف في بداية سنة 1995 إلى حوالي 100 ألف سنة [16]1997. ويتميزون عن القوات النظامية بكونهم أبناء البلد الذي يدافعون عنه، وبالتالي معرفة دقيقة بأرض المعركة وبالسكان وعائلات مقاتلي الجماعات الإسلامية[17]. فنجحوا في منع الجماعات الإسلامية المسلحة من التنظيم على نطاق واسع وحشد قواهم أو استعادة أنفاسهم..والأهم من ذلك راقبوا السكان المحليين ومنعوهم من تقديم أي عون أو دعم لهذه الجماعات. هذه القوات وقع تدريبها ثم تسليحها من قيل الجيش، أما في الميدان فيخضعون لأوامر الدرك الوطني. وتم في شهر أغسطس/آب إصدار قرار رسمي لتحديد مهامهم بدقة.
أما الفئة الثانية من الميليشيا، فتمثلها قوات الدفاع الذاتي. انتقل عددهم بسرعة كبيرة ليصل إلى 100 ألف سنة 1997. وحدد قرار رسمي صدر سنة 1997 كيفية تكوينهم. فالمفوض الأمني هو المسؤول على الترخيص لهم بعد أن يقدم بعض السكانطلبا رسميا ويوافق عليه في حالة ما توافقه الأجهزة الأمنية. ومنذ أبريل/نيسان أصبح لهذه الجماعات قيادة مركزية في وزارة الداخلية[18].
ورغم النجاحات الكبيرة التي حققتها هذه الجماعات الجديدة في محاصرة الإسلام المسلح ومساندة أوساط كثيرة داخل الحكم أو حتى محايدة لهم، فإن كثيرا من ردود الفعل كانت سلبية. فالمعارضة "الديموقراطية" تحدثت عن خطر هذه الجماعات واتهمت السلطة ب"خصخصة الحرب" [19]. ووصل بها الأمر إلى اتهام هذه الجماعات بالقيام بعمليات انتقامية غير قانونية وقتل مدنيين أبرياء بغاية تصفية حسابات شخصية ليست لها أية علاقة بالسياسة، أو قتل عائلات كاملة من أجل الحصول على أرضها[20]. كما تتهم المعارضة النظام بكونه قد تخلى جزئيا عن مهمة الدولة المقدسة والمتمثلة في احتكار العنف المنظم لصالح فئة من الشعب. ومن ثمة لا بد من استقالة حكومة عاجزة عن حماية مواطنيها.
في نهاية المطاف، من الممكن التأكيد على أن الإستراتيجية الجديدة التي انتهجها الجيش منذ 1995 قد أثبتت نجاعة كبيرة وأدت إلى تحقيق انتصارات هامة ضد الإسلام المسلح. فهؤلاء الأخيرين، وبعد هدنة الجيش الإسلامي للإنقاذ والتشتت الكبير الذي حصل في صفوفهم نتيجة الانقسامات والتصفيات الداخلية، أصبحوا يعيشون ظروفا قاسية. وأصبح استقطابهم للشباب المهمش اجتماعيا مسألة شديدة الصعوبة. بل أن كثيرا منهم فروا من الجبال وسلموا أنفسهم إلى السلطات المحلية حتى ينتفعوا بقانون الرحمة الذي سنه الرئيس السابق اليامين زروال، أو يستفيدوا من "قانون الوئام المدني" الذي طرحه الرئيس عبد العزيز بوتفليقة وصادق عليه الشعب بأغلبية ساحقة..أما المقاتلون الأوائل ومن يسمون بالأفغان فإن أكثرهم تم قتله خلال المعارك[21].
أما على المستوى الخارجي، فإن أساليب النظام في مواجهته للإسلام المسلح تم الاحتجاج عليها من قبل المنظمات الدولية المهتمة بحقوق الإنسان. فقد نشرت منظمة "ناقلون بدون حدود" (Reporteurs sans frontières) كتاب الجزائر الأسود سنة [22]1995. ثم نشرت منظمة "اللجنة الجزائرية للمناضلين الأحرار من أجل الكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان" (Le Comité algérien des militants libres de la dignité humaine et des droits de l’homme)سنة 1996 كتابا عنوانه "الكتاب الأبيض حول القمع في الجزائر (1991-1995) (Livre blanc sur la répression en Algérie (1991-1995)[23]. قام مؤلفو هذين الكتابين بإدانة ممارسات الجيش الجزائري في حربه ضد الإسلاميين واتهموه بتعدد التجاوزات.
وتزامنا مع نجاحه العسكري، قام الجيش بغرس بذور الانشقاق والتشتت لدى "الإنقاذ" والجماعة الإسلامية المسلحة وحقق كثيرا من النجاحات.
ب- تفكك "الإنقاذ" والجماعة الإسلامية المسلحة
إلى جانب انتصاراته العسكرية المتصاعدة، حقق النظام الجزائري بقيادة مؤسسته العسكرية نجاحات أخرى تمثلت خاصة في تفكيك المعارضة الإسلامية المسلحة وإضعاف تعاونها ودفعها في كثير من الأحيان إلى التقاتل فيما بينها بعد زرع بذور الشقاق والاختلاف. فقد نجح من جهة بدفع الاختلاف والصراع بين الجيش الإسلامي للإنقاذ والجماعة الإسلامية المسلحة إلى حدوده القصوى ووصل الأمر بمقاتلي "الإنقاذ" إلى التنسيق مع الجيش الجزائري في معاركه ومساعدته ضد الجماعة. وقد توج هذا التعاون بأن أعلن قائد الجيش الإسلامي للإنقاذ هدنة من جانب واحد في أواخر سنة 1997. وفي نفس الوقت، انضمت جماعات أخرى إما لقوات "الإنقاذ" أو إلى الهدنة بشكل منفصل[24] وبعضها سلم نفسه لقوات النظام.
وفي السياق نفسه، اشتدت الخلافات والتناقضات بين قادة "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" في الخارج بين تيار معتدل يدعو إلى التفاوض والحوار مع السلطة ويساند خطوات "الجيش الإسلامي للإنقاذ" في هدنته ويمثله رابح كبير في ألمانيا، وآخر أكثر تصلبا ينادي بواصلة "الجهاد" ويمثله أنور هدام في أمريكا. أما عن الجماهير الغفيرة التي ناصرت "الإنقاذ" في انتخابات 1990 و1991 ، فيبدو أن أغلبها انضم إلى حركة "حمس" بقيادة الشيخ محفوظ نحناح وهو ما يفسر انتقال نتائجها الانتخابية بعد حل "الإنقاذ" بشكل سريع[25]. والأكثر من ذلك، فإن بعض قادة وحتى مؤسسي "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" أعلنوا انسحابهم منها وانضمامهم إلى السلطة الحاكمة. يمكننا إعطاء أمثلة : أحمد مراني، بن عزوز زبدة، سعيد قشي، الهاشمي سحنوني وبشير فقيه. وتمكن النظام الجزائري من دمجهم في أجهزة الدولة بمناصب مختلفة. النتيجة تمثلت في انتهاء الجبهة الإسلامية للإنقاذ كحزب جماهيري كبير ومتماسك، فلم يبق إلا شخصيات مختلفة لا ترتبط فيما بينها بروابط تنظيمية وانضباطية حقيقية..فقد نجح النظام في إعادة سيطرته على كل الفضاءات تقريبا، من الفضاء السياسي، إلى الفضاء الاجتماعي، وحتى الفضاء الديني متمثلا في المساجد..
أما من حيث خلاصتنا النهائية، فيجب التنبيه إلى أن انتصارات المؤسسة العسكرية تبقى نسبية، وأغلبها يتمثل في حمايتها الدولة من السقوط والتفكك لصالح الإسلاميين في مرحلة أولى ثم إضعاف الجبهة الإسلامية للإنقاذ وتنظيماتها العسكرية بتشتيتها وزرع الانقسام فيها في مرحلة ثانية.. أما المرحلة الثالثة والمنتظر منها إنهاء أي عمل مسلح مضاد للدولة واستئصاله كلية، فإن المؤشرات الحالية لا تبشر بمثل هذا النصر القريب.
[1]- Lahouari Addi, “Dynamique infernale en Algérie”, Le Monde Diplomatique, octobre 1995.
[10]- Yves Lacoste, “Les causes spécifiques du drame algérien ou le slogan de la guerre d’indépendance incomplète”, Hérodote, n. 77, p.7.
[11]- غياب هذه الجبال والأدغال في كل من مصر وتونس يفسر الهزيمة الكبيرة والسريعة للحركة الإسلامية عندهما. فقد كانت المعركة تدور في المدينة مما سهل على قوات الشرطة والمخابرات منفردة القضاء على هذه الحركات دون الحاجة حتى لتدخل الجيش.
[12]- Nedjalka Markov, Action collective et mobilisation. De l’analyse historique aux modèles sociologiques: Le chemin de Charles Tilly, Faculté de sciences économiques et sociales, Genève 1986, collection Etudes et Recherches, n.20, p.31.
[13]- Bruno Callies de Salies, “Les luttes de clans exacerbent la guerre civile”, Le Monde Diplomatique, octobre 1997.
[14]- Saïd Boularès, “La grande Muette livre ses secrets”, Les Cahiers de l’Orient, troisième et quatrième trimestre, 1995, no.39/40, p.192.
[15]- Bruno Callies de Salies, “Les luttes de clans exacerbent la guerre civile”, op, cit.
[20] - أنظر التصريحات الإعلامية الكثيرة للويزة حنون. ورغم أن الحكومة كانت دائما ترد وتقول أنها سلحت الشعب من أجل حماية نفسه ولأنها تثق فيه وتعتبر أن معركتهما واحدة..فإنها اعترفت منذ أواخر عهد زروال بحصول كثير من التجاوزات القانونية ضد المدنيين من قبل بعض هذه الجماعات وأعلنت عن اعتقالهم ومحاكمتهم.
[21]- Bruno Callies de Salies, “Les luttes de clans exacerbent la guerre civile”, op, cit.
[22]- Reporters sans frontières, Le livre noir de l’Algérie, Paris, 1995.
[23]- Le Comité algérien des militants libres de la dignité humaine et des droits de l’homme, Livre blanc sur la répression en Algérie (1991-1995), Hoggar, Plan-les-Ouattes, Suisse, 1996.
تتناول هذه الدراسة تطور الصراع في الجزائر من خلال السلوك الانتخابي منذ أول انتخابات تعددية إلى الانتخابات الرئاسية التى جرت مؤخرا. كما تهدف إلى محاولة تفسير التحولات الى شهدها هذا السلوك وكيف تغيرت موازين القوى لصالح النظام وعلى رأسه المؤسسة العسكرية بعدما كان مهددا بالتفكك والسقوط.
كما تحاول نفس الدراسة الاعتماد على بعض نظريات العلوم السياسية التي يمكنها أن تؤطر الموضوع وتشرح بعض جوانبه. إن المسألة الأولى التي تواجهنا هي الاختيار بين النظرية الانقسامية أو نقيضها النظرية الإجماعية كإطار عام للبحث.
نظرية الانقسام ونقيضها النظرية الاجماعية
الميزة التى يمكن أن توفرها لنا هاتان النظريتان تتمثل في تأكيدهما على المستوى السياسي (الثقافة السياسية) لأي بلد معين ودورها في عمليات التعبئة التي تقوم بها التنظيمات الاجتماعية.
أ-نظرية الانقسام (Theory of segmentation)
يميز غوسفيلد Gusfield[1]، في إطار المجتمعات التعددية، بين نوعين من المجموعات الصغيرة (sous-groupes) حسب طبيعة الهيكل الاجتماعي لكل منها. فالأولى تخص مجتمعات "التعددية المرتبطة" (Linked pluralism) حيث نجد الانتسابات الاجتماعية للأفراد متشابكة. أما الثانية فهي تتعلق بالمجتمعات ذات "التعددية المنقسمة تجمعات" (Superimposed segmentised pluralism)حيث تتلاءم أشكال الانتسابات الاجتماعية فيها، فقط، من أجل مجموعة أفراد. فعندما يحتوي مجتمع معين على مجموعات إثنية، مثلا، يتميز بعضها عن البعض الآخر على المستوى الاقتصادي وعلى المستوى الديني، فهي تنتمي إلى المجموعة الثانية من التعددية. ومن ثمة، يعتقد غوسفيلد أن هذا النوع الأخير من المجتمعات يتعرض أكثر من غيره إلى انعدام الاستقرار السياسي واستعداده لإفراز حركات متطرفة، عكس الأول الذي يتيح من خلال الانتسابات الاجتماعية تهدئة الصراعات وجعلها أكثر اعتدالا.
ب-النظرية الإجماعية(Consociationnel Theory)
تعتقد النظرية الإجماعية، على عكس النظرية الانقسامية، بإمكانية ظهور إجماع سياسي يستوعب إمكانيات الصراع. قدمت هذه النظرية بعد دراسة الحياة السياسية في المجتمع الهولندي. ويعد آرند ليجفارArend Lijphart [2] أحد روادها. يرى هذا المنظر أن المجتمع الهولندي يحتوي على بنية اجتماعية شديدة الانقسام، حيث تبلورت هذه الانقسامات في وجود تنظيمات متعددة، مختلفة ومتناقضة، لكنها في المقابل لا تعيش صراعات سياسية حادة، ولا تعيش حالة عدم استقرار سياسي ولا تخترقها موجات عنف اجتماعي مخرب... على العكس من كل ذلك فهذا المجتمع يتميز باستقرار واعتدال مستمرين. يفسر نفس المنظر الاجماع السياسي الحاصل في هولندا من منظور أن النخبة السياسية اتفقت على عدم اتباع آلية تنافسية من أجل الوصول الى السلطة وممارستها: وهي الآلية المتبعة عادة في مجتمعات التعددية. ويعتقد ليجفار أن سبب الاتفاق السلمي على تقاسم السلطة يعود إلى إرادة النخبة السياسية في المحافظة على الاستقرار وإلى خشيتها من خطر الانفجار السياسي. ويبين نفس المفكر أن هذا العقد الاجتماعي الفريد يتميز بتوفر أربعة خصائص، تعد الخاصيتان الأوليتان ضروريتان:
1-ممارسة السلطة جماعيا: وتعبر الحكومة الائتلافية على هذا الاتجاه أحسن تعبير
2-استقلالية المجموعات
3-نظام انتخابي نسبي
4-حق النقض بالنسبة إلى الأقليات.
تعد سويسرا كذلك نموذجا مثاليا من حيث الاستقرار السياسي الذي تنعم به والناتج عن إجماع النخبة السياسية حول عقد اجتماعي يميزه المشاركة الجماعية في السلطة وإدارة الكونفدرالية[3]. لكن سرعان ما تم نقد النظرية الإجماعية وتفسير الإجماع بطريقة أخرى. بالنسبة ألى هولندا نجد شولتن [4]Scholtenوسويسرا نجد كريزي [5]Kriesi، يتفقان على أن غياب التنافس بين النخب السياسية يعود إلى اتفاق النخب المحلية على وجوب محافظتها على سيطرتها التقليدية التى تمارسها على أنصارها وبالتالي فهي تتجنب إمكانيات الانقلاب عليها. أما فيزلار Wisler فيري أن نظرية ليجفار حصرت في مجال عمل محدد وهو تقييم دور المستوى السياسي في الصراعات التقليدية من نوع الصراعات الاثنية أو الثقافية، وبالتالى فقد ندر أو حتى انعدم اهتمامها بالحركات الاجتماعية الجديدة[6].
من الواضح أن الأحداث التى مرت بها الجزائر منذ انتفاضة أكتوبر/تشرين الثاني 1988 تجعل من النظرية الانقسامية إطارا نظريا ملائما لدراستنا[7]. فالمسلمة الأولى التى ننطلق منها تعبر عن وجود انقسام شديد في هذا المجتمع تمت محاولة ترتيبه ومأسسته من خلال سلسلة من عمليات الانتخابات المتتالية.
أولا: نجاح تعبئة حزيران/يونية 1990
نجحت الجبهة الإسلامية في أول انتخابات تعددية شهدتها الجزائر نجاحا ساحقا بينإلى أي مدى تمكنت من تعبئة الموارد، حشد الطاقات وإحداث مفاجاءة عامة. لقد تمكنت من الفوز في 850 بلدية على عدد جملي بلغ 1500 ، فكانت النتيجة ما يعادل 54%، في حين أن جبهة التحرير الوطني الحاكم في ذلك الوقت لم تحصل إلا على 28% من الأصوات وامتنع 35% من مجموع الناخبين على المشاركة. يلخص هذا النجاح في الجدول التالي:
جدول رقم 1: نتائج انتخابات 1990 البلدية والولائية[8]
الأحزاب
عدد الأصوات
النسبة المئوية
المعبر عنهم
الجبهة الإسلامية للإنقاذ
4 331 472
33,73
54,25
جبهة التحرير الوطني
2 245 798
17,49
28,13
جبهة القوى الاشتراكية
-
-
-
المستقلون
931 278
7,25
11,66
التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية
166 104
1,29
2,08
أحزاب أخرى بما فيها حماس
310 136
2,41
3,88
أحزاب صغيرة
-
-
-
يمكن تفسير هذا الفوز الكبير للجبهة الإسلامية للإنقاذ بوجود عدد كبير من المواطنين قرروا الاحتجاج على النظام القديم وسحب ثقتهم منه وفي نفس الوقت تشجيع الآتي الجديد وإعطائه فرصة للتغيير. كما يمكن فهم هذا النجاح الكبير الذي حققته الجبهة الإسلامية للإنقاذ من خلال نظرية تعبئة الموارد.
نظرية تعبئة الموارد[9](Resources Mobilization Theory)
عندما ظهرت نظرية تعبئة الموارد، التى صاغها لأول مرة في شكلها التأليفي الكامل كل من زالد Zald ومكارثي McCarthy[10]، سرعان ما لقيت قبولا واسعا وإجماعا من قبل المجتمع العلمي[11]. بنت هذه النظرية نقدها على أفكار ثلاثة:
1-لا يمكن اعتبار الفاعل الاجتماعي موضوعا للسيكولوجيا، ذلك أنه يعمل عقلانيا،
2-لا تعد واقعية النظرية التقليدية مسألة ملائمة، ذلك أن التحولات الاقتصادية الاجتماعية متجاهلة عند ظهور الفعل الجماعي،
3-تعد التنظيمات، على عكس فرضيات نموذج مجتمع الجماهير، المفتاح الذي نفهم من خلاله عمليات التعبئة.
يكمن الاختلاف الأساسي بين النظرية التقليدية ونظرية تعبئة الموارد في اعتقاد الأولى، على حسب تصور صاحبها كورنهوزر،إن عماد الفعل الجماعي يعود الى غياب التنظيمات الوسيطة، في حين تعتقد الثانية أنه على العكس، أن التنظيمات الوسيطة هي عصب الفعل الجماعي. كما شرح كورنهوزر مسألة أن غياب علاقات التضامن التقليدية تم تعويضه من خلال خلق علاقات تضامن أخرى أكثر تطورا أفرزتها المدينة وأدارتها تنظيمات جديدة. هذه الأخيرة هي السبب الأساسي في ظهور التعبئات الاجتماعية التى تعيشها المجتمعات المعاصرة. انتقدت نظرية التعبئة المقاربة السيكولوجية واهتمت أكثر بالمقاربة الاقتصادية التى أصبحت عماد تحاليلها. فهي تعتقد أن الفاعلين الجماعيين أناس عقلانيون ويتصرفون انطلاقا من حسابات دقيقة[12]. يشبه كل من زالد وماكرثي منظمات الحركات الاجتماعية بمديري المؤسسات، حيث يتصرفون في عدد معين من الموارد مثل العمل، الموظفين، التمويل... لذلك فهم يعتمدون في اختيار إستراتيجيات حركتهم على مفهومي الربح والخسارة.
كما انتقدت نظرية التعبئة، عبر مساهمات زالد وماكرثي، مفهوم وضعية النظرية التقليدية وشككت في وجود علاقة سببية وثيقة تربط بين التحولات الاقتصادية والاجتماعية وظهور الكبت والحرمان الذان يؤديان إلى الفعل الجماعي.فهما لا يعتقدان في هذه الآلية السببية، حيث يتجاوزانها الى تصور آخر ينبني على فكرة أن التنظيمات هي التى تخلق الحاجيات المطلبية والاعتراضات المعبئة. يقولان في هذا المعنى: "الاعتراضات والاستياءات يمكن تحديدها، خلقها والتلاعب بها من قبل المديرين (القادة) Entrepreneurs و التنظيمات"[13]. فالأزمة، على حد اعتفادهم، لا تشكل سببا مباشرا في عمليات التعبئة الاجتماعية، ذلك أنها لاتتجاوز كونها موردا هاما لتنظيمات الحركات الاجتماعية التى تعمل على استغلالها[14].
إذا طبقنا هذه النظرية على الجبهة الإسلامية للإنقاذ، فإننا نستخلص أن نجاحها يعود في الحقيقة إلى عمل كبير قامت به في فترة قصيرة من الزمن. أي أن التنظيم ونشاط التعبئة المنظم أديا إلى تحقيقها نتائج باهرة. رغم أننا لا نتجاهل الأزمة المجتمعية العامة التى ساعدتها على تعبئة الأنصار في زمنسريع. ومن ثمة يجب دراسة عمل الجبهة الميداني الذي تمكنت من خلاله النفاذ إلى الشارع الجزائري الواسع[15].
استغلت الجبهة الإسلامية للإنقاذ كثيرا من الموارد المتاحة لصالحها ووظفت تكتيكات فعالة من أجل هذه الغاية. يلخصها الباحث الأمريكي غراهام فولر Graham Fuller في "التعليم، استخدام المال، نشر خطاب واضح، الوسائل الإعلامية العصرية، تقنيات الحملة الانتخابية العصرية...استخدام شبكات دعم واسعة من الأنصار، حيث جاء بعضها حتى من جبهة التحرير الوطني، الحزب الحاكم آنئذ"[16].
1.التعليم: تأسس تقليد التعليم الإسلامي في الجزائر مع ظهور جمعية العلماء المسلمين في بداية الثلاثينات من هذا القرن. وحينما استقلت الجزائر سنة 1962 حدث صراع عنيف على السلطة نتج عنه سيطرة الجناح العربي الإسلامي على كل من جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني ووصوله إلى الحكم مقصيا الجناح الفرنكفوني الليبرالى أو اليساري. ساهم هذا النجاح في إنجاز مخططات التعريب الواسعة[17] وإدماج تدريس الدين الإسلامي في برامج التربية. ومنذ سنة 1980 انتشرت المجموعات الأولى للداعين الإسلاميين في الكليات والجامعات حيث تحولت المسارح وقاعات الرياضة إلى أماكن للعبادة والصلاة[18]. وجدت أرضية مهيأة لنشاطها تمثلت في تشجيع ضمني من قبل الرئيس الجديد الشاذلى بن جديد لها حتى يحد من حجم تأثير الحركات اليسارية بصفة عامة والتيار الاشتراكي المعارض لسياسته الليبرالية داخل جبهة التحرير الوطني بصفة خاصة[19]. ومن ثم أصبحت عمليات احتلال الفضاءات العامة من قبل الإسلاميين محور صراع شد وجذب بين التيارات المتصارعة داخل جبهة التحرير. والأكثر من ذلك، يتميز هؤلاء الشباب الإسلاميين بميزات جديدة خاصة لم تتوفر في إسلاميي جمعية العلماء التقليديين. كانت لهم الشجاعة والجرأة الكافيتين حتى يفسروا القرآن بأنفسهم دون العودة إلى المشايخ التقليديين. كما تحدوا السلطات الأخرى، بما فيها سلطة الآباء أو سلطة السياسيين أو حتى سلطة علماء الدين. إنهم لا يعترفون إلا بتفسيرهم "الثوري" الخاص للقرآن والإسلام. سيشكل هذا الجيل لاحقا الجبهة الإسلامية للإنقاذ وسيهيمن على هيكلها التنظيمي. نجحت هذه الإستراتيجية وأثبتت فعاليتها في عمليات التعبئة التي استهدفت الأوساط الجامعية والتلمذية. ومكنت الجبهة الإسلامية للإنقاذ من شريحة مجتمعية حية وطموحة ومتبنية لإيديولوجية عمل جديدة خاصة لدى أولئك الشباب الذين لا يمتلكون بدائل اجتماعية[20].
2. التمويل: يعتقد كثير من الباحثين، بمن فيهم غراهام فولر، في فرضية التمويل السعودي ليس فقط للجبهة الإسلامية للإنقاذ وإنما لجل الحركات الإسلامية السنية في الوطن العربي بشكل خاص أو في العالم الإسلامي بشكل عام. تكثف التمويل السعودي لهذه الحركات منذ بداية سنة 1980 وذلك بهدف مواجهة الثورة الإيرانية الصاعدة. هذه الثورة أرادت أن تكون الممثل الأول أو لنقل المرجع الأساسي للنضالية الإسلامية المعاصرة[21]. من الصعب إثبات مثل هذه التهم للباحثين، لكن من الممكن رصد أن أغلب وسائل الإعلام المرتبطة بالسعودية وخاصة تلك الصادرة في لندن أبدت تعاطفا واضحا مع الحركة الإسلامية الجزائرية ونقدا جليا للنظام. لكن سرعان ما حدث مستجد غير من النظرة السعودية للجبهة الإسلامية للإنقاذ. لقد أحدث غزو العراق للكويت انقساما حاد في صفوف الجبهة. فالقيادة ممثلة في عباسي مدني تعاطفت مع الموقف الخليجي أما القاعدة الشعبية فاندفعت لمساندة العراق. وأمام ضغطها الكبير، اضطرت القيادة إلى اتخاذ مواقف منسجمة مع التطلعات الجماهيرية. ومن ثمة وقع شرخ بين الجبهة والمملكة التى اتجهت إلى دعم محفوظ نحناح وحركته حماس مع محافظتها على علاقات جيدة مع أنصارها الأوفياء داخل الجبهة.
يجب التنبيه إلى أن التمويل الخارجي لا يمثل المصدر الأساسي للجبهة الإسلامية للإنقاذ. فهي تعتمد بالدرجة الأولى على مواردها الذاتية، حيث نجحت في إنشاء شبكة دعم واسعة تتكون من دوائر محلية ناجعة مكنتها من تحقيق تمويل ذاتي لأنشطتها. يعتقد عمر كارلييه Omar Carlier في هذا المضمار أن شريحة واسعة من السكان قدمت دعمها المالي ويذكر خاصة "الأغنياء الجدد، الطبقات العمالية، التجار، والمؤسسات الصغرى"[22]. إن هذا التنوع في التمويل الذي جاء ، تقريبا، من مختلف الفئات الاجتماعية الجزائرية يعود أساسا إلى نجاح الحركة الإسلامية في الجزائر، كحركة شعبوية، في الوصول إلى كافة الطبقات والتواصل مع فئات اجتماعية متناقضة المواقع اقتصادا، طبقات، وثـقافة[23].
3- الدعاية الإعلامية:حقيقة لم يكن للجبهة الإسلامية قناة تلفزيونية خاصة، ولا حتى إذاعة، ولا حتى مجموعة صحف ومجلات نافذة. لكنها تمكنت من تعبئة فئة كبيرة من المجتمع لصالح خطابها. اعتمدت تقنية تواصلها مع الجماهير على المساجد التى عوضت وسائل الإعلام الجماهيري السابقة، وبرزت لا كمنافس إعلامي لها فقط، وإنما كبديل يتمتع بصدقية وتأثير شديدين. يقول بتر سان جان Peter St. John في دراسة أعدها لمجلس الأمن الكندي: "سمح انحطاط الظروف الاجتماعية والاقتصادية للجبهة الإسلامية للإنقاذ بخلق شبكات مساجد صغيرة غير رسمية. تكاثرت بسرعة خارج رقابة وإشراف وزارة الشؤون الدينية"[24]. أصبحت إستراتيجية الجبهة تعتمد على احتلال الشارع، على التعبئة المستمرة لمناضليها، وجماهير المتعاطفين معها، من خلال خلق تواصل ثابت بين الفضاء العام والمسجد.
كما درس الباحث الجزائري، أحمد رواجعية، في كتابه الإخوان والمسجد (Les Frères et la mosquée) إمبيريقيا العلاقة بين ظهور الحركة الإسلامية، واشتداد عودها، وتعاظم قدرتها في التعبئة من جهة والتزايد المستمر لعدد المساجد من جهة أخرى[25]. لقد انتقل عدد المساجد في الجزائر بشكل ملحوظ من 2000 مسجد مع بداية الاستقلال إلى حوالي 11 ألف مسجد حاليا[26]. ورغم أن قانون 1971 يجعل من الدولة مراقبا لكل عمليات بناء المساجد، لكل أنشطتها وكذلك لمحتوى الخطب التى تلقى فيها[27]، فإن الإسلاميين نجحوا في احتلال وشغل واستغلال هذه الفضاءات الدينية العامة التى جعلوا منها أماكنا للدعاية، لتسييس الجماهير وتعبئتها. اتبعوا في بنائهم للمساجد خطة ذكية. فهم يبنون أولا مساجدهم الخاصة الممولة من عطاءات ، ثم يستفيدون كل الاستفادة من تسامح الدولة الكبير بعد أحداث أكتوبر/تشرين الأول 1988 إزاء تطبيق قوانين 1989 التى تشترط رقابة الدولة على المساجد حتى يسمح ببنائها[28].
أصبحت المساجد، بهذه الطريقة، فضاءات اجتماعية، أماكن تنشر فيها المذاهب ويجند فيها المناضلون، وخصوصا مراكز معارضة واحتجاج اجتماعي وسياسي يضع موضع الاتهام الدولة الجزائرية ومؤسساتها. وحققت نفس المساجد نجاحا باهرا حينما عوضت وسائل الإعلامي الجماهيري المملوكة للدولة التى فقدت كل صدقية لدى المواطنين منذ زمن طويل. يشهد على ذلك يحي رحال، جنرال جزائري متقاعد، كان عضوا في النخبة العسكرية القائدة حتى سنة 1996 حينما يصف التلفزيون الجزائري قائلا : "(...) النتيجة كانت على عكس ماهو منتظر. ففي حين كان المطلوب من التلفزيون خدمة النظام، فإنه شكل في الواقع عائقا كبيرا له"[29].
4- الشبكات(Les réseaux) :
استخدمت الجبهة الإسلامية للإنقاذ نظام الشبكات (système des réseaux)التى أنشأتها داخل المجتمع. يقدم الباحث الجزائري عيسى خلادي فكرة نبيهة لفهم علاقات القرابة بين المناضلين الإسلاميين. يشرح ذلك فيبين أن النسيج الاجتماعي الذي يجمعهم لا يعتمد على الرابطة القبلية كما قد يعتقد البعض، وإنما يعتمد على مفهوم الحي (Le quartier) والروابط العائلية. فهم يلتقون يوميا في المسجد مما يجعلهم ينسجون علاقات تعارف عادة ما تنتهي إلى تصاهر عن طريق الزواج الديني. إن عمليات الزواج هذه لا تمر عبر السجلات الإدارية في البلديات، بل تبقى فقط دينية ومن ثمة تتفادى رقابة الدولة وأجهزتها[30]. غير أن الإسلاميين توقفوا عن هذا التكتيك منذ حزيران/يونية 1990، تاريخ انتصار الجبهة الإسلامية في الانتخابات البلدية والولائية، وقاموا بتسجيل قانوني لعمليات الزواج التي تمت سابقا داخل بلدياتهم الإسلامية.
5- الخطاب الأسطوري: اعتمدت الجبهة الإسلامية للإنقاذ في عمليات تعبئة الموارد البشرية على خطاب شعبوي يهدف إلى تحطيم صورة النظام الداخلية واتهامه بالعمالة للخارج الذي عادة مايقصد به فرنسا من جهة، وعلى احتكار الإسلام من خلال جعل نفسها ممثلته الوحيدة في المجتمع من جهة أخرى. يقول عباسي مدني في هذا الصدد : "الشعب هو نحن، ونحن هو الشعب، بما أن هذا الأخير لا يعترف إلا بالإسلام"[31]. ومن هنا يتمكن هذا الخطاب من إقصاء بقية الخطابات السياسية حتى وإن تقاربت معه. لقد نجح هذا الأسلوب التعبوي عندما تميز بخلطه الكامل والنسقي بين الإسلام والجبهة وجعلهما متطبقان. ويصبح خصومها، بهذه الطريقة، أعداء للإسلام نفسه. فالجبهة تتهم كل من لا ينتمي إليها وتقدم نفسها على أساس أنها "طريق النجاة الوحيد لكافة فئات المجتمع"[32]. كما اعتمدت الجبهة ثنائية المؤمن/الكافر وكأنها تعبر عن ثنائية كارل شميت (Carl Schmitt) التى يلخصها في صديق/عدو. وهو الذي يعرف السياسي على أنه "كل تجمع يحدث في أفق امتحان القوة"[33].
ثانيا: نجاح تعبئة 26 ديسمبر/كانون الثاني 1991
سمحت السلطات الجزائرية بإجراء انتخابات هامة تغير بموجبها تشكيلة البرلمان الجزائري القديم. وحاولت من خلال هذه الانتخابات أن تحقق فوز جبهة التحرير الوطني عن طريق سن قانون انتخابي[34] في مارس /آذار 1991 يفتت الدوائر الانتخابية حتى يكثر من الدوائر المتوقع أن تنحاز للحزب الحاكم، ومن ثمة تضاعف عدد مقاعد البرلمان من 295 إلى 542. احتجت الجبهة الإسلامية للإنقاذ بشكل راديكالي وعنيف على هذا القانون حيث دعت إلى إضراب عام يشل الجزائر. تمكنت السلطات من إفشال هذا الإضراب بشكل عام، أما في الجزائر العاصمة، فقد تمكن بعض المضربين من احتلال بعض المؤسسات العامة مما أدى إلى مضاعفة حالة التوتر وعدد الاشتباكات اليومية. أمام هذه الوضعية، دعا الرئيس الشاذلي بن جديد الجيش لفرض استتباب الأمن، أعلن حالة الطوارئ لمرة ثانية في ظرف ثلاث سنوات وأجل الانتخابات لموعد غير محدد. ردت قيادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ الفعل وهددت بإعلان حالة تعبئة عامة في صفوفها من أجل الجهاد. اعتبرت السلطات الجزائرية هذه التصريحات بمثابة إعلان حالة حرب ضد الدولة. فاعتقلت في 30 حزيران/يونية عباسي مدني وعلي بلحاج بتهمة التآمر على أمن الدولة. ووصل عدد المعتقلين من الجبهة في الأول من يوليو 1991 إلى 3000 معتقل.
رغم هذه الظروف الصعبة التى مست القيادة العليا للجبهة الإسلامية للإنقاذ وكثيرا من إطاراتها، فإن أحد تياراتها، الأكثر اعتدالا، أي الجزأرة بقيادة عبد القادر حشاني، فرض المشاركة في الانتخابات التشريعية التى جرت في 26 ديسمبر/كانون الأول 1991. فاجاءت نتيجة الانتخابات الجميع بما فيها النخبة الحاكمة التى كانت تنتظر فوز جبهة التحرير الوطني، أو حتى القيادة الإسلامية الجديدة التى لم تنوقع فوزا ساحقا مماثلا. فهي حصلت، منذ الدور الأول، على 231 مقعدا من أصل 430،في حين لم تحصل جبهة التحرير الوطني إلا على 15، وحصلت جبهة القوى الاشتراكية على 25[35]. وهو ما يبينه الجدول التالي تفصيلا:
جدول رقم 2 : نتائج الانتخابات التشريعية لسنة 1991[36]
الأحزاب
عدد الأصوات
النسبة المئوية
المعبر عنهم
الجبهة الإسلامية للإنقاذ
3 260 222
24,59
47,27
جبهة التحرير الوطني
1 612 947
12,17
23,38
جبهة القوى الاشتراكية
510 661
3,85
7,40
المستقلون
309 264
2,33
4,43
التجمع من أجل ث. ود.
200 267
1,51
2,9
آخرون
1 004 358
7,58
14,56
حماس
386 761
2,78
5,35
أحزاب صغيرة
635 761
4,80
9,21
يفسر لهواري عدي، عالم الاجتماع الجزائري، هذه النتائج بشكل مختلف. فهو يعتقد أن الديموقراطية في حد ذاتها لم تكن تطلعا شعبيا لدى الجزائريين، بما أن أغلب الناخبين اختاروا الجبهة الإسلامية للإنقاذ في حين أن هذه الأخيرة لم تخف أبدا تقييمها للنظام الديمقراطي كنظام كافر[37]. وفي المقابل، يعتبر أن الشعبية الساحقة التى يحظى بها الإسلام السياسي هي نتيجة لوعده "بتوزيع العائدات النفطية، أي العودة إلى الشعبوية الاقتصادية التى مارستها جبهة التحرير الوطني في سنوات الستين والسبعين"[38]. ثم يبرر فوز الإسلاميين في أول انتخابات تعددية بأن "الشارع دخل محطما، مكسرا في شكل من الأشكال للحقل السياسي حتى يصبح بدوره فاعلا يعلن أن الدولة ليست مسألة خاصة ولكنها قضية عامة. ومن وجهة النظر هذه، تصبح ظاهرة الاحتجاج الإسلامي ظاهرة حداثة، ذلك أن الجماهير لا تصبح فاعلا سياسيا إلا في مجتمع الحداثة"[39].
الانتقال من صناديق الاقتراع إلى التعبئة المسلحة[40]
استغلت الجبهة الإسلامية للإنقاذ "بنية فرصة سياسية" مواتية أحسن استفلال حتى تقوم بعملية تعبئة واسعة من أجل افتكاك السلطة عبر استخدام القوة. لا بد من تعريف بنية الفرص السياسية حتى ندرك آلية استغلالها.
بنية الفرصة السياسية(Political opportunity structure:POS) وتعميق جذرية المطالب السياسية
استخدم هذا المفهوم في البدء أيزنغر Eisingerوإطلاقه مفهوم "بنية الفرصة السياسية" على ما كان يعرف سابقا "حقل الموارد السياسية". وتعتبر هذه النظرية أن جميع أنواع الموارد السياسية مرتبطة بعضها ببعض في شكل خاص. وقد استخدم منظرون آخرون هذا المفهوم: فقد حلل تارو [41]Tarrow تأثير بنية الفرص السياسية على التعبئة الاجتماعية في إطار من عدم الاستقرار السياسي. فبنية الفرص السياسية لديها القدرة على توليد الفعل الجماعي في حين أن الاستقرار السياسي يولد العكس. يعد تعريف تارو لبنية الفرص السياسية الأكثر دقة[42]. فهو يقسم بنية الفرص السياسية إلى خمسة عوامل: درجة الانفتاح أو انغلاق النظام السياسي؛ استقرار أو عدم استقرار التراصف السياسي؛ تواجد أو غياب المتحالفين ومجموعات الدعم؛ انقسام النخب وتسامحها تجاه عمليات الاحتجاج؛ وأخيرا قدرة الحكومة على تلقين سياساتها العامة[43].
حاول فيليول، من جانبه، توضيح هذا المفهوم ليجعله أكثر إجرائية. واقترح لأجل ذلك ضرورة الأخذ بعين الاعتبار عدة أبعاد. فقد ميز، أولا، مستوى البنية الفوقية السياسية[44] المتمثلة في عملية السياسات الجمعية(processus macro-politiques)، الثقافة السياسية[45] والبنية السياسية[46]. يحدد هذا المستوى إطارا ملزما وغير محسوس هيكليا حيث يتم فيه التفاعلات Interactionsبين مختلف الفاعلين السياسيين.
تبين لنا بنية الفرص السياسية، من خلال نموذج كريزي (Kreisi)، كيف تتم عمليات التطرف السياسي وكيف يتم لجوء المعارضين الى العنف في حالة انغلاق النظام السياسي أمامهم.
ينطلق كريزي من تحديد لبنية الفرص السياسية فيعرفها كبنية للنظام السياسي الذي يعطي منفذا للحركات الاجتماعية المعارضة. هذه البنية تتميز باستقلالها النسبي عن أهداف الحركات الاجتماعية. كما تحدد "مجموعة اختيارات إستراتيجية" تشكل ما يمكن تسميته "بالحقل الإستراتيجي" للحركات.
حدث ما سماه كريزي بقانون انغلاق النظام السياسي يؤدي إلى تطرف المعارضة والتجائها للعنف. فخرج من رحم الجبهة المنحلة مجموعات مسلحة تهدف إلى تقويض الدولة والاستيلاء على السلطة من خلال العنف المسلح. عمل الجيش الجزائري أولا على قطع الموارد التى تستخدمها الجبهة الإسلامية في عمليات التعبئة، ثانيا على تفكيك بنية الفرص السياسية التي حاولت استغلالها والنفاذ منها. لكنه في نفس الوقت أدى تدخله العنيف إلى نشأة الحركات المسلحة الراديكالية.
تدخلت المؤسسة العسكرية مباشرة في الحياة السياسية فقامت، تزامنا، بإجبار الرئيس الشاذلي بن جديد على الاستقالة، إلغاء الانتخابات، وحل الجبهة الإسلامية للإنقاذ ومواجهتها من خلال ضرب مواردها واستئصالها. حدث احتواء لفضاءات التعليم عبر تحييد الطلبة الإسلاميين النشطين، وتشجيع الفئات الأخرى من أجل محاصرة الظاهرة. كما تدخلت قوات الأمن مباشرة لمراقبة الجامعات والمعاهد والتعليم بشكل عام. أما في مجال التمويل، فقد شن هجوما شاملا على الجبهتين الداخلية والخارجية. تمت مراقبة المؤسسات الصغرى والمتوسطة وأصبح التجار الذين ينتمون إلى هاتين الفئتين مطالبون بإبداء الولاء مقابل السماح بالنشاط الاقتصادي. صار إعطاء الرخص البلدية والسماح بالأنشطة التجارية مسائل مرتبطة بمعايير أمنية دقيقة. أما خارجيا فقد نشطت الدبلوماسية الجزائرية واستخدمت كل ثقلها من أجل محاصرة الجبهة وأنصارها. أقنعت الكثير من الدول بضرورة التخلي عن الجبهة الإسلامية للإنقاذ. ونجحت في ذلك نجاحا كبيرا. ساعدها فيه التحولات التى شهدها العالم والنشاط الفرنسي الكبير من أجل تحجيم المد الأصولي. كما وجدت المملكة العربية السعودية نفسها ضحية للعنف الديني أكثر من مرة مما دفعها إلى تعديل إستراتيجيتها تجاه الحركات الإسلامية بما فيها جبهة الإنقاذ التى سبق وأن امتعضت من مواقفها أثناء حرب الخليج. وفي مجال الإعلام، قامت السلطة بغلق الصحف القليلة المرتبطة بالجبهة الإسلامية للإنقاذ أو المتعاطفة معها. وفي الآن نفسه، شجعت الصحف الناطقة بالفرنسية ذات التوجه اليساري واللائيكي. أما أكبر نجاح حققته فيتمثل في إعادة سيطرتها على المساجد عبر وزارة الشؤون الدينية التى أشرفت على الأئمة وعلى مضمون خطب الجمعة. كما شجعت الإسلام الإخواني بقيادة محفوظ نحناح لملء الفراغ. وفي ما يتعلق بشبكات الدعم التى تشكلت عبر المصاهرة، فقد وجدت قوات الأمن خيوط الارتباط العائلي في سجلات البلديات مما مكنها من فك هذه الشبكات. يقول عيسى خلادي أن الشرطة تمكنت بعد استيلائها على سجلات الجبهة أو سجلات البلديات التى كانت تسيطر عليها من بناء خطة عضوية (organigramme) ضخمة أعادت بموجبها تشكيل خريطة علاقات القرابة التى تجمع الإسلاميين والتى كانت مجهولة قبل انتخابات 1990. وهو ما فسر السهولة الكبيرة التى تم بموجبها اعتقال حوالي30 ألف مناضل من الجبهة. ويضيف خلادي أنه منذ تلك الساعة عاد الإسلاميون إلى أسلوبهم القديم في الزواج الديني غير المسجل[47].
قام النظام بشن حملة اعتقالات واسعة على إطارات الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وأغلبهم من المتعلمين والمثقفين وكثير منهم كانوا مسييرين للبلديات...واعتقد أنه أنهى نشاطهم. لكنه سرعان ما واجهه قانون انغلاق النظام يؤدي إلى تطرف المعارضة الشديد. فوجد نفسه فجأة أمام نخب جديدة استخدمت السلاح في وجهه وفي وجه شرائح كثيرة من المجتمع. إن جيل الجماعات الإسلامية المسلحة أو حتى الجيش الإسلامي للإنقاذ يتميز بصفات استثنائية. فهم شباب لم يتعلموا كثيرا، مراهقين في بعض الأحيان، كانوا مهمشين داخل جبهة الإنقاذ نفسها حينما كانت القيادة بيد الفئات المرفهة ماليا، الناضجة سنا، والتى وجدت مواقع لها في القيادة. أما جيل استخدام السلاح فهو محروم من كل هذه الامتيازات. حدث فرز سريع تم بموجبه سيطرة المؤسسة العسكرية على المدن وبالتالي على الحياة السياسية التى استعادت احتوائها وعلى المنشاءات الاقتصادية الحيوية، وفي نفس الوقت تركت الأرياف المعزولة والجبال الوعرة مجالا لنشاط الجماعات المسلحة. نتج عن انتصار الجيش مبكرا في معركة المدن انحسار المدالانتخابي الإسلامي.
ثالثا: انحسار المد الانتخابي الإسلامي
اعتقد النظام الجزائري، أنه تمكن تدريجيا من استعادة الجمهور الناخب لصالح سياسته بعد حله للجبهة الإسلامية للإنقاذ وتشتيت صفوفها، اعتقالا، أو قتلا، أو تشريدا في الخارج. ويعتمد في رأيه هذا على نتائج الانتخابات الرئاسية لسنة 1995 التى جاءت تفاصيلها كالآتي:
جدول رقم 3: نتائج الانتخابات الرئاسية لسنة 1995[48]
عدد الأصوات
النسبة المئوية
المسجلين
15 261 731
المقترعين
11 500 209
75,35
الغائبين
3 761 522
24,65
المعبر عنهم
11 152 507
73,07
الملغاة
347 722
2,28
اليمين زروال
6 834 822
61,29
محفوظ نحناح
2 907 356
26,06
سعيد سعدي
996 835
8,94
نورالدين بوكروح
413 032
3,70
كيف يمكننا تحليل هذه النتائج؟ نرصد تحولان كبيران. الأول يتمثل في فوز اليمين زروال والثاني يتجسد في عدد الأصوات التى حصل عليها محفوظ نحناح.
إن نسبة 61 بالمائة التى حصل عليها زروال تفسر على أساس توجه عدد كبير من الناخبين للبحث عن الاستقرار وتجنب المغامرة فاختاروا مرشح الجيش. فهي تقبل الآن بسيطرة الجيش من أجل الحفاظ على الأمن ووضع حد للصراع الذي أصبح غير محتمل للجميع. وبالنسبة لأنصار الجبهة الإسلامية للإنقاذ، تبدد أمامهم حلم الانتصار وإقامة "الدولة الإسلامية"، حيث فشل نمط الأسلمة من القمة أي الاستحواذ على أجهزة الدولة بالعنف ومن ثمة أسلمة المجتمع بالقوة، وعاد من جديد نموذج الأسلمة من القاعدة، أي أسلمة المجتمع سلميا مع التجنب الكلي لأي استخدام للقوة أو العنف[49]. أين ذهبت أصوات الملايين الخمسة التى اقترعت لفائدة الجبهة الإسلامية للإنقاذ؟ من الواضح أن الجزء الكبير منها اتجه صوب محفوظ نحناح الذي يعد أكثر المستفيدين من هذه الانتخابات. وهو ما يفسر انتقال ناخبيه من697 386 إلى حوالي ثلاثة ملايين (907356 2) (من 2,87% إلى 26,06% من عدد الأصوات). أكدت هذه النتيجة فرضية وجود تيار إسلامي قوي في الجزائر غير خاضع بالضرورة لأي حزب إسلامي ولا يتعامل مع التنظيمات لكنه يتعاطف ويدلي بأصواته لأكثر المشاريع إسلامية تتقدم في منافسة الانتخابات. يتأكد هذا الاستنتاج بالحجج التالية:
أولا: دعت الجبهة الإسلامية للإنقاذ إلى مقاطعة الانتخابات الرئاسية، وهو ما لم يحدث، فكانت المشاركة كثيفة وتوجهت الأصوات الإسلامية إلى نحناح.
ثانيا: يعد محفوظ نحناح أكبر أعداء الجبهة الإسلامية للإنقاذ، فهو لم يشاركها في عقد روما، وشجع السلطة على اضطهادها وقدم نفسه بديلا عنها...ورغم ذلك فاز بأصوات أنصارها.
ثالثا: بينت هذه الانتخابات أن الجبهة الإسلامية للإنقاذ لم تكن في واقع الأمر خمسة ملايين مناضل ملتزم ببرنامجها، وإنما كانت تنظيما نخبويا كغيره من التنظيمات، لكنه نجح في تعبئة قاعدة عريضة من المتعاطفين مع الفكرة الإسلامية في شكل عام. هذه الملايين الخمسة لم تكن مستعدة أن تدفع ضريبة الالتزام والنضال وما يتبع ذلك من اضطهاد وخسارة مادية ومعنوية. لقد اختار بعضها أسهل الطرق وهي الانتصار إلى مشروع إسلامي آخر، أو حتى الانضمام إلى النظام نفسه الذى أغرى كثير من قيادات الجبهة الإسلامية للإنقاذ وانضموا إليه. يمكننا ذكر أمثال كل من عبد الباقي زبدة، السيد قشي، الهاشمي سحنوني ومحمد الفقيه.
وفي نفس الوقت، تراجعت نسبة الغائبين عن التصويت واندفعت جماهير أكثر للمشاركة السياسية. يبرز الجدول التالي هذا التحول من الحياد الانتخابي إلى المشاركة.
جدول رقم 4: المقترعون والغائبون في انتخابات 1990، 1991، و1995[50]
المشاركة
البلدية
سنة 1990
التشريعية
سنة 1991
الرئاسية
سنة 1995
العدد
النسبة %
العدد
النسبة %
العدد
النسبة%
المسجلين
12 841 769
13 258 554
15 261 731
المقترعين
8 366 760
65,15
7 822 625
59,00
11 500 209
75,35
الغائبين
4 475 009
34,85
5 435 929
41,00
3 761 522
24, 65
بيضاء/ملغاة
381 972
2,97
924 096
6,97
347 722
2,28
المعتبرة
7 984 788
62,18
6 897 719
52,02
11 152 507
73,07
يبين هذا الجدول تطور نسبة المشاركة الانتخابية التى امتدت على ثلاث عمليات انتخابية. فقد كانت المشاركة في أول انتخابات كثيفة نسبيا[51] (65.15%) سنة 1990، لكنها تراجعت سنة 1991 (59%) ثم تعود وترتفع جديا لتصل إلى نسبة 75% أي بزيادة 10% عن أول انتخابات تعددية حدثت في الجزائر. هذا التطور يدل على أن نسبة من الناخبين الجزائريين (10%) التى غابت في الانتخابات السابقة غيرت موقفها هذه المرة وذلك تحت وقع ضغط الأحداث اليومية. وهي اختارت مرشح الجيش عوض الفوضى واحتمالات المغامرة وبالتحديد خطر استفحال حرب أهلية تهدد كيان الدولة نفسه بالاندثار.
رابعا: تواصل النمط الجديد
مثلت الانتخابات التشريعية التى جرت في 5 حزيران/يونية 1997 تواصلا لنتائج الانتخابات الرئاسية السابقة. وهو ما يبينه الجدول التالي:
جدول رقم 5: نتائج الانتخابات التشريعية ل5 حزيران / يونية 1997
الأحزاب
المقاعد
التجمع الوطني الديموقراطي
156
حركة مجتمع السلم (حماس)
69
جبهة التحرير الوطني
62
حركة النهضة
34
جبهة القوى الاشتراكية
20
التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية
19
حزب العمال
4
المستقلون
11
عبرت هذه الانتخابات عن تواصل مشروع السلطة الذي تبلور في الانتخابات الرئاسية السابقة. أما النجاح الباهر الذي حققه الحزب الجديد : التجمع الوطني الديموقراطي(تأسس قبيل إجراء الانتخابات ببضعة أشهر)، فهو في حقيقة الأمر انتصار للرئيس اليمين زروال نفسه، أي هو دعم للمشروع الرئاسي الذي مثله[52]. كما عبرت عن قبول السلطة بالتعايش مع ما تسميه بالإسلام المعتدل، فحصلت كل من حركتي حماس والنهضة مجتمعتين على 103 مقعد. كما نجحت السلطة في إكساب الانتخابات مصداقية من خلال مشاركة ثلاثة أطراف ممضين على عقد روما[53] في هذه الانتخابات.
الانتخابات الرئاسية ل14 أبريل 1999
بدا الصراع الذي قام في الجزائر على مستوى الحملة الانتخابية الرئاسية وكأنه في نهاية المطاف صراع أشخاص أكثر منه صراع برامج أو عقائد أو إيديولوجيات. كتب الخبير الأمريكي بالشؤون الجزائرية وليام كوانت منذ حوالي ثلاثين سنة "إن تفسير السلوك السياسي الجزائري تفسيرا عقائديا هو، ببساطة، غير مقنع لمعظم المراقبين"[54].
بدت الشخصيات السياسية المرشحة شبه متفقة على الخطوط العامة في برامجها. فهي تدعو إجمالا إلى العدالة الاجتماعية وإزالة مفهوم "الحقرة"، تأكيد حرية الصحافة والالتزام بمواصلة العملية الديموقراطية وتدعيمها. أما الاختلاف فكمن في درجة الانفتاح ومدى إعادة الاعتبار للجبهة الإسلامية للإنقاذ. لا يوجد من بين المرشحين السبعة استئصالي واحد. وعمل جميعهم في حملتهم الانتخابية على التقارب من الخطاب الإسلامي والابتعاد عن مفاهيم العلمانية واستئصال الحركة الإسلامية.
إن أول الملاحظات التي تفرض نفسها بقوة تكمن في أن أغلب المرشحين باستثناء عبد الله جاب الله جاءوا من جبهة التحرير الوطني حيث تشكل فيها وعيهم السياسي وتجربتهم النضالية رغم مغادرة بعضهم لها لاحقا[55].
ثاني ملاحظة يمكن من خلالها أن نفرق بين درجة الاختلاف في الأطروحات السياسية تعود إلى مدى القبول بفكرة عودة الجبهة الإسلامية للإنقاذ وإجراء عفو شامل عبر عملية مصالحة وطنية واسعة النطاق. وفي هذه النقطة يمكن رصد الترتيب التالي: أتي الإبراهيمي وجاب الله على رأس الداعين لفتح صفحة جديدة مع الحزب المحظور، تلاهما حسين آيت أحمد ومولود حمروش، ثم أخيرا عبد العزيز بوتفليقة، مقداد سيفي ويوسف الخطيب.تمثل المجموعتان الأولى والثانية أطروحة عقد روما. أما المجموعة الأخيرة فهي تعبر عن تصور السلطة وعلى رأسها المؤسسة العسكرية لكيفية حل الأزمة. بهذا الشكل، نستخلص أن الاتجاه العام متفق عليه وهو البحث عن مخرج للعنف المستمر منذ حوالي ست سنوات، أما الاختلاف فيعود إلى درجة الانفتاح والحوار وليس إلى المبدأ.
بدا واضحا منذ تقديم الرئيس اليمين زروال استقالته المبكرة أن الجيش، أو تحديدا، الأمن العسكرياختار عبد العزيز بوتفليقة ليكون رئيسا للجزائر. ورغم هذا الاختيار، فقد حدث تحول كبير في الثقافة السياسية الجزائرية تمثل في الحملة الانتخابية وما تميزت به من نقاش مفتوح تعرض لكل المواضيع بما فيها وضعية الجيش نفسه بالنسبة إلى الدولة والمجتمع. حدث تقدم كبير في ما يمكن تسميته بالثقافة السياسية[56] لكنه انتهى بشكل مؤسف حينما انسحب ستة مترشحين في آخر لحظة. يبين الجدولان التاليان نتائج هذه الانتخابات:
جدول رقم (6) نتائج الانتخابات الرئاسية ( 15 أبريل 1999)
المرشح
عدد الأصوات
النسبة المئوية
عبد العزيز بوتفليقة
7 442 139
73.79
أحمد طالب الإبراهيمي
1 264 094
12.53
سعد عبد الله جاب الله
398 416
3.95
حسين آيت أحمد
319 523
3.17
مولود حمروش
311 908
3.09
مقداد سيفي
226 371
2.24
يوسف الخطيب
122 826
1.22
جدول رقم (7) نتائج نسبة الاقتراع
المسجلين
17 494 136
المقترعين
10 539 751
بيضاء/ ملغاة
454 474
الأصوات المعبر عنها
10 085 277
الغياب عن التصويت
6 954 385
نسبة المشاركة
60.25%
نجح بوتفليقة بنسبة 73.79% معنسبة مشاركة وصلت إلى 60.25% وهو ما يعتبره كافيا لأن يكون رئيسا شرعيا للجزائر. لكن يبدو لنا في نفس الوقت صعوبة تحليل نتيجة هذه الانتخابات لأنها تحولت من انتخابات تعددية إلى مجرد استفتاء لا أكثر حول شخصية السيد عبد العزيز بوتفليقة. غير أنه من الممكن ملاحظة بعض المؤشرات الدالة مثل المرتبة التى احتلها السيد أحمد طالب الإبراهيمي أو السيد عبد الله جاب الله الذي جاء بعده في الترتيب. فرغم مقاطعتهما للانتخابات فإن نسبة هامة توجهت إلى مرشح "الإسلاميين الأول" أحمد طالب الإبراهيمي بفوزه ب12.5 بالمائة من الأصوات. أي أن ذلك التيار العام، وليس بالضرورة ان يكون منظما، الذي سبق له وانتخب الجبهة الإسلامية للإنقاذ، ثم تحول إلى محفوظ نحناح، اختار هذه المرة أحمد طالب الإبراهيمي. تكمن أهمية هذه النتيجة، إذن، في اعتراف النظام نفسه بحقيقة وجود هذه الفئة الإسلامية من الناخبين. والأكثر من ذلك، أن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة نفسه، استخدم الإسلام في حملته الانتخابية واعتبره مقوم أساسي من مقومات الشعب الجزائري ووعد بدعمه والمحافظة عليه. كما وعد بمصالحة وطنية وأكثر من ترديد هذا التعبير. ولا يمكن أن يفهم من المصالحة الوطنية إلا كونها حوار وتصالح مع متخاصمين، يتجسدان، في حالة الجزائر، في النظام وعلى رأسه المؤسسة العسكرية من جهة والجبهة الإسلامية للإنقاذ وعلى رأسها عباسي مدني من جهة أخرى.
خـاتـمـة
نجح النظام الجزائري في تشتيت الجبهة الإسلامية للإنقاذ وإضعافها وخلق بدائل لها. تمكن من قطع الموارد التى استخدمتها في عمليات التعبئة ومن إضعاف بنية الفرصة السياسية التى توفرت بين سنتي 1992 و1994. يجد نفسه اليوم في موقف قوة، خاصة بعد أن فكك تحالف مجموعة عقد روما وأعاد إلى صفوفه حزب جبهة التحرير الوطني، وحركة النهضة. كما أنشأ حزبا جديد يؤازره في الحياة المدنية. لعبت المؤسسة العسكرية الدور الرئيسي في منع النخب الحاكمة من التفكك. واختارت موقفا وسطا بين نهج تسلطي مباشر وديموقراطية كاملة. تراوحت الاختيارات بين الانفتاح مرة والانغلاق مرة أخرى. راقبت الانتخابات وحاولت التأثير في نتائجها أو احتوائها. لكنها سمحت في نفس الوقت لأنصار "المشروع الإسلامي" بالتعبير عن أنفسهم في أشكال أخرى عبر الشيخ محفوظ نحناح أو عبد الله جاب الله أو أخيرا أحمد طالب الإبراهيمي. تعثرت الديموقراطية الجزائرية تارة ونجحت في أحوال أخرى خاصة في انفتاح وسائل الإعلام على مختلف الخطابات السياسية. تعيش الجزائر مخاضا ديموقراطيا عسيرا لتنطلق نحو مجتمع تعددي فعلي. يساعدها في ذلك عدم وجود سلطة مشخصنة وزعيم كاريزمي أوحد، إضافة إلى وجود مؤسسة عسكرية تنتهج أسلوب القيادة الجماعيةCollegial commandment مما ييسر عملية توزيع السلطات ومن ثمة إمكانية توسيعها التدريجي حتى تشمل المشاركة الشعبية الواسعة.
ملخص الدراسة
تهدف هذه الدراسة إلى رصد تطور الصراع السياسي في الجزائر منذ قيام أول انتخابات تعددية إلى آخر انتخابات شهدها هذا البلد. تحاول تفسير تحول الناخبين وسلوكهم وكيف تحولت موازين القوى لصالح النظام بعد أن كانت لصالح الجبهة الإسلامية للإنقاذ. وتعتمد الدراسة على بعض نظريات ومفاهيم العلوم السياسية المتعلقة خاصة بعملية تعبئة الموارد أو بنية الفرص السياسية لتحاول من خلالها فهم تطور الصراع السياسي في الجزائر.
استندت الدراسة إلى مسلمة وجود انقسام سياسي حاد في الجزائر واعتمدت على كل نتائج الانتخابات التى حدثت بين 1990 و1999. وقدمتها في شكل جداول متتالية. وحاولت أن تحلل سوسيولوجيا أسباب نجاح الجبهة الإسلامية للإنقاذ في كل من انتخابات 1990 و1991 لتبين كيفية تعبئتها للموارد. لقد تبنت الدراسة مقولة أن الأزمة الاجتماعية لا تخلق الفعل الجماعي الاحتجاجي ولكن التنظيم المحكم للجبهة الإسلامية للإنقاذ وتكتيكها الذكي هما الذان خولا لها كل هذه الانتصارات. ركزت في نشاطها على التعليم، التمويل، شبكات الدعم، والإعلام والخطاب الأسطوري... ونجحت في تعبئة موارد هامة. لكن تدخل المؤسسة العسكرية ووقفها لعملية الانتخابات أدى إلى ظهور بنية فرص سياسية استغلتها الجبهة التى انتقلت من إستراتيجية الأسلمة من القاعدة نحو القمة إلى إستراتيجية الأسلمة من القمة نحو القاعدة. حدث ما يسمى في العلوم السياسية بقانون انغلاق النظام السياسي يؤدي إلى تطرف المعارضة واستخدامها للسلاح. فخرجت من رحم الجبهة تنظيمات عسكرية تشكلت من فئة الشباب التى كانت بدورها مهمشة داخل الجبهة الإسلامية للإنقاذ نفسها.
نجح النظام في السيطرة على المدن والمنشاءات الاقتصادية الحيوية وترك الأرياف المعزولة للحركة الإسلامية المسلحة. كما نجح في خلق بديل للجبهة تمثل في حركة حماس، وفكك عقد روما وراقب الانتخابات التى أراد دائما أن تكون تحت إشرافه وأن لا تبتعد نتائجها كثيرا عن توقعاته وما ينتظره منها. وفي نفس الوقت لم ينغلق تماما أمام المعارضة. حيث سمح في العديد من الأحيان بحوار سياسي إعلامي حر جذب انتباه المراقبين، لكنه تراجع في كثيرا من المرات. رصدت الدراسة أيظا استمرار وجود فئة من الشعب الجزائري ذات الحساسية الإسلامية المفتونة بالخطاب الديني، غير المنظمة في إطار تنظيم سياسي. هذه الفئة هي التى ساندت الجبهة الإسلامية للإنقاذ، ثم تحولت لمساندة الشيخ محفوظ نحناح، وأخيرا إلى أحمد طالب الإبراهيمي وذلك باعتراف نتائج الانتخابات الرسمية نفسها.
تتعثر الديموقراطية في الجزائر وتمتزج بالعنف أحيانا وبالنكسات السياسية أحيانا أخرى...لكنها تتضمن عوامل ترسيخها وتأكيدها، من ذلك عدم شخصنة السلطة في هذا البلد، ووجود قيادة جماعية للمؤسسة العسكرية مما يسهل من مهمات توزيع السلط والاتجاه نحو مشاركة شعبية أوسع رغم العثرات والنكسات.
[1]Joseph Gusfield, “Mass Society and Extremist Politics”, American Sociological Review, no. 27, (1962), p.29.
[2]Arend Lijphart,The Politics of Accommodation Pluralism and Democracy in the Netherlands, (Berkeley: University of California Press, 1968). See also with the same author: - Democracy in Plural Societies, (New Haven: Yal University Press, 1977). – “The Power-Sharing Approach”, in: Conflict and Peacemaking in Multiethnic Societies, ed. by Joseph V. Montville, (Toronto: Lexington Books, 1990).
[3]لا بد من الإشارة الى أن الإجماع السياسي الحالي في سويسرا سبقته حروب وصراعات دامية شهدتها القرون الماضية. فقد عاشت الحروب الدينية: كاثوليكية وبروتستنتية ثم صراعات طبقية في بداية القرن الحالي أدت ألى تنازلات لصالح التيار الاشتراكي تمثلت
في تبني الاقتراع النسبي بعد الإضراب العام لسنة 1919، ثم إنجاز اتفاق "السلم الاجتماعي" في سنة 1937 تبعه تعيين وزير اشتراكي في الحكومة الائتلافية سنة 1938 ثم أصبح العدد وزيرين سنة 1958 وهو ما ساعد على استمرار إجماع النخبة السياسية.
[4]I. Scholten, “Does Consociationnalism Exist?”, in: Electoral Participation :A Comparative Analysis, ed. by (London: Richard Rose, Sage, 1980).
[5]Hanspeter Kriesi, “The Political Opportunity Structure of New Social Movements: Its impact on their Development”, Paper prepared for the Workshop on “Social Movements”, Counterforces and Public Bystanders”, WBZ, Berlin, (July 5-7, 1990).
[6]Dominique Wisler, Violence politique et mouvements sociaux, étude sur les radicalisations sociaux (1969-1990), (Genève: georg, 1994),p. 28.
[7]إذا سمحت لنفسي بنقد النظرية الإجماعية، فإنني أقول أن الإجماع بصفة عامة كمفهوم يعتبر وهما وسرابا، وقد يخفي تواطؤا سياسيا كما هو الحال في سويسرا أو هولندا، أو هو يخفي عمليات الاغتصاب ومنطق الإجماع على الخوف بعد التهديد والوعيد بالنسبة إلى الدول التى لا تعيش الديموقراطية التعددية وتحاول أن تبحث عن الشرعية من خلال مفهوم الإجماع، وهو مفهوم ضبابي يتستحيل حدوثه على أرض الواقع.
Jacques Fontaine, “Quartier défavorisés et vote islamiste àAlger”, Revue du monde musulman et méditerranéen, no.65, (1992), p.157.
[9]انتشرت نظرية تعبئة الموارد انطلاقا من الولايات المتحدة الأمريكية وعمت كثيرا من البلدان الأنجلوسكسونية وازدهرت كذلك في الدول الإسكندنافيةوإيطاليا...لكنها لم تجدقبولا واسعا في فرنسا إلا مؤخرا.يكتب أوليفياي فيليول Olivier Fillieule :" يتميز البحث الفرنسي في هذا المجال بفقره النسبي بالمقارنة مع جيرانه على مستوى التمكن من الأدوات النظرية وكذلك على مستوى الأعمال الأمبيريقية"، ثم يضيف: " أن العلوم السياسية في فرنسا المتأثرة كثيرا بالقانون، الرحم الذي جاءت منه، لم يكن في مقدورها دراسة موضوع سلوكيات لا يقرها القانون..." انظر في هذا المعنى:
Olivier Fillieule, “L’Analyse des mouvements sociaux. Pour une problèmatique unifiée”, in (Sous la direction de) Olivier Fillieule, Sociologie de la Protestation. Les formes de l’action collective dans la France contemporaine, (Paris: L’Harmattan, collection Sciences Humaines et Sociales, 1993), p.30.
سنحاول، نحن بدورنا وفي نفس هذا الاتجاه، تجنب المقاربات القانونية. وذلك لعجزها عن تفسير الحركات الاجتماعية الاحتجاجية في مجتمعات ديموقراطية شفافة كفرنسا. وتصبح المقاربة القانونية شبه مستحيلة حينما يتعلق الأمر بدولة من العالم الثالث حيث تتميز هذه الدول بوجود خلل كبير بين الخطاب الدستوري القانوني والممارسة السياسية اليومية.
[10]John D. McCarthy, and Mayer N. Zald, “Resource Mobilization and Social Movement: A partial theory” American Journal ofSociology, no. 82, (1977).
[11]Dominique Wisler, Violence politique et mouvements sociaux, étude sur les radicalisations sociaux (1969-1990), op, cit, p. 22.
[13]John D., McCarthy, and Mayer N. Zald, “Resource Mobilization and Social Movement: A partial theory”, op, cit, p.44.
[14]Dominique Wisler, Violence politique et mouvements sociaux, étude sur les radicalisations sociaux (1969-1990), op, cit, p. 23.
[15]نعتقد أنه من المفيد دراسةالعمل الميداني Actionللجبهة الإسلامية للإنقاذ أو لأي حركة إسلامية أخرى مع تجنب دراسة الخطاب، خاصة الفكري منه، لهزالته أولا ثم لأنه يعد ثانويا لهذه الحركات المستعجلة للفعل والمهتمة أصلا بالتغلغل في الشارع
[17]سياسة التعريب تبناها كل الرؤساء الجزائريين المتعاقبين وخاصة الرئيس الراحل هواري بومدين، ووزير التعليم أحمد طالب الإبراهيمي أو مسؤول جبهة التحرير الوطني محمد الصالح اليحياوي.
[18]Rabia Bekkar, “The shrinking space of Algerian politics”, Freedom Review, vol.23, n.3, (1994), p.27.
[19]كانت نفس الإستراتيجية العامة متبعة من قبل الكثير من الأنظمة العربية وبتشجيع أمريكي واضح حتى يحد من انتشار تيارات اليسار القومي، الاشتراكي أو الشيوعي.
[20]Omar Carlier, “De l’islahisme à l’islamisme : la thérapie politico-religieuse du FIS”, Cahiers d’études africaines, no.2, (1992), p.200.
[21]Graham Fuller, Algérie : l’intégrisme au pouvoir, op, cit, p.76.
[22]Omar Carlier, “De l’islahisme à l’islamisme : la thérapie politico-religieuse du FIS”, op, cit, p.202.
[23]على عكس ماهو شائع مثلا، ليست الجبهة الإسلامية للإنقاذ وعاءا يشتمل على المعربين فقط، وإنما يوجد فيها كثير من ذوي الثقافة الفرنسية، خاصة لدى تيار الجزأرة المنتشر في الأوساط التقنية والهندسية.
[24]Peter St. John, “Insurrection, légitimité et intervention en Algérie”, Commentaire n.65, Publication du Service Canadien du renseignement et de la sécurité.
[25]Ahmed Rouadjia, Les frères et la mosquée, enquête sur le mouvement islamiste en Algérie, (Paris: Karthala, 1990).
[26]Aïssa Khalladi, Les islamistes algériens face au pouvoir, (Alger: Alpha , 1992), p.29.
[27]Graham Fuller, Algérie : l’intégrisme au pouvoir, op, cit, p.77.
[39]Lahouari Addi, “L’Islam politique et la démocratie; le cas algérien”, Hérodote, n. 77, (Avril-Juin 1995), p.69
[40]من الكتب التى تناولت بشكل جاد هذا التحول من التعبئة السياسية الانتخابية إلى التعبئة العسكرية، انظر:
Séverine Labat, Les islamistes algériens entre les urnes et les maquis, (Paris: Le Seuil, 1995).
[41]Sidney Tarrow, “Struggling to Reform: Social Movements and Policy Change during Cycles of Protest”, Western Societies Program Occasional Paper no 15, CornellUniversity, (1983).
[42]Olivier Fillieule, L’Analyse des mouvements sociaux. Pour une problèmatique unifiée,op, cit, p.48.
P.K., Eisinger,“The conditions of Protest Behavior in American Cities”, American Political Science Review, n.67, 1973 (pp 11-28) فيما يتعلق بدرجة انفتاح أو انغلاق النظام؛ Piven &Cloward, “Poor People’s Movement: Why They Succeed, How They Fail, (New York: Vintage, 1977) حول استقرار أو عدم استقرار التراصف السياسي؛W. Gamson, The Startegy of social protest, (Homewood: The Dorsey Press, 1975) حول تواجد أو غياب المتحالفين ومجموعات الدعم؛ J.C. Jenkins &Ch. Perrow, “Insurgency of the Powerless: Farm Worker Movement (1946-1972), AmericanSociological Review, no.42, (1977) في تأكيده على انقسام النخب وتسامحها تجاه الاحتجاج؛ H. Kitschelt, “Political Opportunity Structures and Political Protest: Anti-Nuclear Movements in Four Democraties”, Britsh Journal of Political Science, v. 16, (1986),. عند أبرازه لعامل قدرة الحكومة على تلقين سياساتها العامة. انظر إجمالا: Olivier Fillieule, L’Analyse des mouvements sociaux. Pour une problèmatique unifiée,op, cit, p.48.
[44]تختلف الموارد المتاحة لأي حركة حسب السيرورات السياسية الاقتصادية والديموغرافية آلاتى تؤثر في المجتمع بطريقة مستقلة
عن أعضائه. انظر:
Olivier Fillieule, L’Analyse des mouvements sociaux. Pour une problèmatique unifiée, op, cit, p.49.
[45]يعد مستوى الثقافة السياسية محددا، ونعنى بها قوة التقليد الديموقراطي و درجة التعددية في المجتمع. انظر:
Olivier Fillieule L’Analyse des mouvements sociaux. Pour une problèmatique unifiée,op, cit, p51.
[46]تمتلك كل من بنية الدولة وطبيعة النظام السياسي قيمة أساسية. يعطى فيليول المثال التالى ليدعم به فكرته: أن بروز وتجذير الحركات الاجتماعية في فرنسا في آواخر الثمانينات يمكن تفسيرهما بنقصان في انفتاح الحكومة وعدم وجود حركة معتدلة. انظر: 51Olivier Fillieule, L’Analyse des mouvements sociaux. Pour une problèmatique unifiée,op, cit, p.
[47]AissaKhalladi, “Esquisse d’une géographie des groupes islamistes en Algérie”, op, cit, p.35.
Jacques Fontaine, “Algérie: les résultats de l’élection présidentielle du 16 novembre 1995”, Monde arabe, Maghreb-Machrek, no.150, (oct-déc. 1995), p.109.
[49]حول مفهومي الأسلمة من القمة أو الأسلمة من القاعدة انظر كل من:
Jean François Bayart, “L’énonciation du politique”, Revue française de science politique, no.35, (juin 1985); Gilles Kepel, (ouvrage collectif), Exiles et royaumes, les appartenancesau monde arabo-musulman aujourd’hui, (Paris: Presses de la Fondation Nationale des Sciences Politiques, 1994), p.30; François Burgat, L’islamisme en face, (Paris: Editions La découverte, 1995), p.83.
[50]Jacques Fontaine, “Algérie: les résultats de l’élection présidentielle de 16 novembre 1995”, op, cit, p. 108.
[51]لا بد من تفنيد مقولة أن غياب حوالي 35% من إجمالي الناخبين عن عمليات الاقتراع يعني أنهم معادون في نفس الوقت للنظام أو الجبهة الإسلامية للإنقاذ. ففي الحقيقة وجدت أحزاب أخرى متعددة المشارب والتطلعات (شيوعية، علمانية، ديموقراطية، جمهورية...) تنافست في نفس الانتخابات، لكنها فشلت في الحصول على أية نتائج مقنعة. كما أن نسبة 65% كمشاركة تعتبر نسبة معقولة، بل ربما جيدة،في إطار انتخابات نزيهة ديموقراطية. إنها النسبة التقريبية للانتخابات التى تحدث في أكثر الدول الغربية عراقة في مجال المشاركة السياسية والعمل الديموقراطي.
[52]حاول زروال مقاومة الهيمنة التاريخية للمؤسسة العسكرية على مؤسسة الرئاسة وحاول استخدام هذا الحزب الجديد في إحداث توازن مع الجيش، لكنه فشل وسرعان ما انقلبت الأحداث على مخططه، ليبين الجيش أنه سيد الموقف الدائم، وأن التجمع الوطني الديموقراطي ليس بحزب الرئيس كما تم تصويره وإنما هو في نهاية المطاف حزب السلطة الفعلية أي الجيش.
[53]حركة النهضة بقيادة عبد الله جاب الله، جبهة القوى الاشتراكية بقيادة حسين آيت أحمد، جبهة التحرير الوطني بقيادة بوعلام بن حمودة.
[54]ورد في كتاب: هيو روبرتس، الجزائر بين الطريق المسدود والحل الأمثل، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، أبو ظبي، العدد8، ص14.
[55]حسين آيت أحمد تركها سنة 1963 وأسس حزبا خاصا به سماه جبهة القوى الاشتراكية. مقداد سيفي خرج منها سنة 1996 وساهم في إنشاء حزب التجمع الوطني الديموقراطي الذي شكل لدعم الرئيس زروال والتخفيف من احتكار جبهة التحرير لساحة العمل السياسي الوطني. أما البقية، أي عبد العزيز بوتفليقة، أحمد طالب الإبراهيمي، مولود حمروش، فمازالوا يعتقدون في انتمائهم لها.
[56] يجب التنويه بما حدث أثناء الحملة الانتخابية إلى حدود يوم 14 أبريل. فدراسة مضمون وسائل الإعلام الجزائرية مكتوبة أو مسموعة أو مرئية لشهري فبراير وآذار وحتى منتصف أبريل فاجاء كل المتابعين لما وصل إليه مستواها من شفافية وتعددية وحرية تعبير تجاوزت كل المحرمات فتناولت كل المواضيع بجرأة مباشرة وضعت الجميع تحت المجهر. تعد الحملة في حد ذاتها تقدما كبيرا للديموقراطية في الجزائر. لكن المؤسف هو التحول الفجئي الذي حدث منذ انسحاب المرشحين الستة حينما تحول التلفزيون الجزائري إلى جهاز تعبئة لصالح الرئيس الجديد وتجاهل خصومه تجاهلا تاما. لقد أقصى الآراء المخالفة، ولم يبث إلا مشاهد دعم بوتفليقة أو استنكار انسحاب المرشحين الستة، بينما كان قبل بضعة أشهر نموذجا يشار إليه في مدى ماوصل إليه من ديموقراطية وشفافية.